هل نحن أحرار في الحياة؟ أم أسرى البيولوجيا والتاريخ والثقافة؟ وما هو مقدار هامش الحرية الفردية؟
حين قام محمد أعبابو بانقلابه على الملك الحسن الثاني في الصخيرات نجا الملك بأعجوبة، وقتل العشرات مثل النعاج ومعهم أعبابو، وأما الجنرال مدبوح مدبر الانقلاب فذبح.
وكان يمكن أن ينقلب المغرب إلى عراق صدام، وجماعة الثورة بنسخة مغربية.
وحين جاء العقاد إلى الأردن لم يكن يعلم أنه على موعد مع الموت هو وابنته بتفجير مروع؟
وحين خرج السادات بزينته إلى الاحتفالات، كان قدره أن يخر إلى الأرض برصاصات الاستانبولي؛ فيرجع إلى بيته في كفن، ويشيع في جنازة تشبه جنازة الفرعون بيبي الثاني.
وصدف ريجان حظه بقرب مشفى فنجا من رصاصة الاغتيال، أما كيندي فأصبح لغز التاريخ مثل حريق روما والقاهرة.
فما هي الأقدار؟ وأين حظنا منها؟
ماذا لو لم يولد نابليون أو ستالين أو عبد الناصر أو صدام وبسمارك وهتلر وموسوليني؟ هل بقيت الثورة الفرنسية في فرنسا؟ وسقطت روسيا في الحرب الكونية؟ أم لم تحدث كارثة 1967؟ أم نجا مليون شاب من العراق وإيران من خنادق الموت؟ ولم تتفجر الحرب العالمية؟ ولما تفشت الفاشية والنازية والبعثية والشيوعية مثل أنفلونزا الخنازير وسارز الطيور؟
هل الأقدار تصنع البشر أم هم يصنعونها أم هو تأثير متبادل؟
لنقوم بتحليل فلسفي؟
نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البيولوجيا، مربوطين إلى سلاسل النسبية للبعد الرابع (الزمن(، أسرى في أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع.

نحن خلقناهم وشددنا أسرهم.
ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات، تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وتشوه.
نحن نعلم اليوم أن (الجينات) هي الشفرة السرية للخلق، تعطينا لون العينين، وطول القامة، وقسمات الوجه، ولحن الصوت، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة، على رنين (منبه الموت) مع كل انقسام كروموسومي؟!
إن (الجينات) في الخلايا هي التي تحدد طول العمر من قصره، والاستعداد لمرض السكر، والميل للتسرطن، وفقر الدم المنجلي.
نحن سجناء عالم (بيولوجي) بقفل أثقل من نجم نيتروني، في قدر لا فكاك منه.
علينا أن نتنفس وإلا اختنقنا، أن نأكل ونشرب وإلا هلكنا، وأن نمارس الجنس وإلا انقرضنا.
يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، علينا أن نمشي على الأرض بقانون الجاذبية؛ فلا نستطيع الانتقال بسرعة الضوء، في أربع استحالات يفرضها قانون النسبية، باستهلاك طاقة لانهائية، وانضغاط أحد الأبعاد الثلاثة إلى الصفر، وزيادة الكتلة إلى اللانهاية، وتوقف كامل في مربع الزمن.
نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء، تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال إلى الأذقان فهم مقمحون.
نحن نأتي إلى الحياة بدون إرادتنا، ونخرج منها بدون إرادتنا ورغبتنا بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد، في الخوف من الموت، والحرص على الحياة.
نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته، لا نتحكم في وقت المجيء إليه في ثانية واحدة منه، تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة إلى مسرح الأحداث فنشارك على خشبة مسرح، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف إلى مستودعات النسيان، فلا تسمع لهم ركزا.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الإنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فنحن لا نفهم تماما ما حولنا.
لا من العدم الذي خرجنا منه، ولا العدم الذي ننتهي إليه؟ ونحن وفي اللحظة الواحدة، مطوقين بصمت أبدي، لا سبيل لنا إلى خرقه.
نحن نتأرجح بين العدم واللانهاية التي تغمرنا في كل حين، وكل واحد منا كل شيء إذا قيس بالعدم، وهو لاشيء أو صفر في علم الرياضيات إذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لا سبيل إلى استكناهه، فهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه، واللانهائي الذي يغمره؟!
نحن لا نستطيع ركوب آلة الزمن فنعود إلى زمن الأنبياء، كما لا يمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة.
نحن محكومين بأجل لا فكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا لا يخترق إلا بطريقة واحدة: الخيال.
هكذا تصور دافينشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم.
نحن أسرى (ثقافة) ننتسب إلى حوض معرفي يبرمج عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب.
نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس، تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة.
المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه؛ فمن يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكيا، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا، ومن ترعرع في جبل سنجار خرج في الأغلب يزيديا يعبد الشيطان ويتقيه؟ ومن ولد في جبل العرب كان درزيا، وفي جبال العلويين علويا، وفي شمال بلجيكا فلمنكيا، وفي التبت بوذيا، من جماعة الدلاي لاما، يلبس الأصفر ويقرع الصنج وينفخ البوق.
كذلك كان الانتساب إلى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن ولد في رواندا في تسعينات القرن العشرين يهرس كموزه في حقل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية وعين زجاجية في أفغانستان عام 1985م، ومن كان ألبانياً في كوسوفو في عام 1995م يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة في لوكسمبورغ، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج في مطلع القرن الواحد والعشرين، ترجع رفاهيته إلى صدفة جيولوجية أكثر من عرق الجبين.
ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي الثورية الديكتاتورية، قد يكون رهين الاعتقال، لا يرى خروجاً من السجون السياسية، ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود، لا يستطيع فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الدومينيك أو الأرجنتين، أو لاجئ سياسي في السويد وألمانيا، أو مهاجر كندي إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من جماعة المافيا والعصابة، شريحة الـ 5% له كل المال وكل الامتيازات، يساق له رزقه رغداً بالعشي والإبكار، في بلد هي مزرعة له ولعائلته.
مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و (الفكر) و (اللغة) و(المال) و(التعلم) أفضل من البيولوجيا؛ فقد يفر عراقي إلى بريطانيا مبدلاً وطنه، وقد يعتنق فنان بريطاني الإسلام مغيراً عقيدته كما في قصة يوسف إسلام، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية، ويرتفع الإنسان بالعلم بدون حدود؛ فيتخلص من الطبقة والفقر.
نحن نظن أننا أحرار في المجتمع، وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلين بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ، وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا، ومعها المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات والاستعدادات.
والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية؛ فيجعل من الفرد بشراً سوياً، كما يفرض علينا السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج، وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت.
وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والأذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاث أشكال: من ظهر الأرض إلى قبر السجن، ومن دفء الجماعة إلى برد العزلة، أومن شاطئ الحياة إلى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي.
وهكذا فهامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة، أرفع من الشعرة، وأحدّ من السيف، ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات، وزنزانة الزمن، وقفص الثقافة، ومعتقل المجتمع.
مع هذا فلا يتقدم المجتمع إلا بهامش الحرية الضئيل هذا، من خيال الأفراد المبدعين، فيتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، ويتنسم في حديقة الدماغ، رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة، واختراعات مبتكرة، ونشأة محدثة في تطور سفر الإنسان.
وعند هذه الزاوية الضيقة، تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع كعلاقات تشريحية، وحركته كفيزيولوجيا وتطور.
العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة، ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات تعيد دورة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان، لا يخرج منها إلى لمواجهة حادث مروع.
العجل يمشي بعد الولادة بساعات، والأرانب تنضج في شهر فتسعى، ويبقى الإنسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية؛ (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين، و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان، وثالثة بـ (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الاركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي.
نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين، ولكن الإنسان وضع قدمه على سطح القمر، ونزلت مراكبه على ظهر المريخ، ويرسو اليوم على مرفأ الكر وموسومات؛ فيكتشف أسرار الشفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95% من حركة الإنسان يقودها (لا وعي) أعمى.
ثقب العين صغير ومنه يرى الإنسان العالم، ومن هذا الثقب لا يرى إلا الضوء العادي، في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، ما يرى منه عشر معشار مالا يرى.
لم يكن غريباُ أن أقسم القرآن على ما تبصرون ومالا تبصرون.
مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون، ويطور ببصيرته بصره، فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية.
الإنسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون.
ومن كانت فيه شريحة إلهية كان مهيئا للخلود في دار السلام.
كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً : يا رب هذا الكون لا يعجبني فيأتيه الجواب: اهدمه وابن أفضل منه.