إن أصل الكفر التغطية، نكفر بشي عندما نغطيه، نحجبه عن الأنظار، فنحن نكفر بالبذرة بتغطيتها بالتراب، وعندما يُستوعَبُ جسدُ الحارس الليلي بالسلاح يكون رجلا مُكَّفرا، وهكذا، فإن الكفر نظام يتأسس من شيء، وغطاء، ومُغطَّي. الكفر بالله تعالى لا يعني تغطيته بطبيعة الحال، بل إنكاره، والكفر بآيات الله له نماذج وصور، ذلك أن الآيات ذات استعمالات متعددة، فقد يكون كفراً بآيات كونية من حيث دلالاتها على التوحيد، أو الحكمة الكونية، وقد يكون كفراً بالمعجزات النبوية، إنكارها، حرفها، التشكيك بصدقها، إرجاعها لقوى خفية، وقد يكون كفرا بالنعم الربانية، وذلك لغياب الشكر، أو لعدم الاستمتاع بها، أو بإرجاعها لغير الله تبارك وتعالى. على أن ليس كل إنكار كفرا، بل يتطلب ذلك علماً سابقا، إيماناً موضوعيِّاً سابقا، إيمان يقضي بأن موضوع الإنكار حقيقة، موجود، صحيح، فإن الإنكار عن جهل، أو شبهة، أو عن وضع نفسي متأزم لا يسمح بالتفكير، أو نتيجة سياق اجتماعي راسخ متمكن من الفكر والروح، أو لظروف نفسية لا قبل للمُنكِر بها، أو نتيجة يأس قابع في أعماق الذات، يأس بسبب الظلم والقهر والاضطهاد والتناقضات التي تحيل الوجود إلى جحيم.... كل هذه الحالات هل تعد من الإنكار الذي يسمى شرعاً كفرا؟
القرآن الكريم يتوعد الذين يكفرون بآيات الله، ولكن ينبغي أن نتبصر وندرس ظروف وشروط ومجريات هذا الوعيد، هل هو جزافي؟ على كل حال؟ من دون شرط ومن دون قيد؟ ليس القرآن الكريم بهذه السذاجة في تخطيط المواقف.
يقول تعالى: (والذين كفروا وكذَّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) ـ الحديد 19 ــ
يقول تعالى: (والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار) ـ الحديد 10 ــ
يقول تعالى: (كذَّب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب).
يقول تعالى: (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) ـ
يقول تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين) ــ الحج 57 ــ
يقول تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة) ـ البلد 19 ـ
يقول تعالى): والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم) ــ الجاثية 11 ــ
التدبر في الطرح القرآني هنا يؤكد بأنّ التكفير لم يكن بسبب الإنكار مجردا، بل لأن هذا الإنكار جاء بعد وضوح كامل، بعد أن كان هناك إدراك من قبل المُنكِرين بأن ذلك حقيقة، فهناك إيمان سابق، وبالتالي، هو إنكار قائم على العناد. كانت هناك آيات واضحة بحد ذاتها، وكان هناك فهم وتصديق من قبل المتلقي كما يبدو من لحن الآيات، ولكن هذا المتلقي كان جافا، معاندا، رافضا... آمن قلباً ورفض لسانا، فكان يستحق الوعيد، ويستحق التعنيف.
معادلة البيان في هذه الشواهد كاملة العناصر...
في حد الآية... في حد المتلقي... في حد الظروف... آيات حسية... لم ينقضها أحد... متوالية متلاحقة... في مجالات عدة...!
ليست الآيات وحدها بينات، بل كان هناك عقل بيِّن، كانت هناك ظروف طبيعية تساعد على استجلاء هذا البيان، فلا تفكير سليم بلا بيئة سليمة، بلا ظروف ومستحقات سليمة.
يقول تعالى:(... وذلك أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...) ـ البقرة 61 ــ
هذه الآيات مبينة من نفس السورة (49 ــ 60)، ومنها فلق البحر، ونجاة بني إسرائيل، وتظليل الغمام وغيرها، وبالتالي، هي كفر بآيات حسية، ويبدو أن بني إسرائيل كانوا مطمئنين حسيا إلى هذه الآيات، بدليل تمارس حياتهم مباشرة، وقد ترتبت عليها أثار حسية تتصل بعمق وجودهم ومعاناتهم.
يقول تعالى في سورة النساء أية 56: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق).
الآيات هنا هي المعجزات، وهي أكثر من خمس عشرة معجزة، كلها حسية، على مسمع ومرأى بني إسرائيل، لم تأت عن تحدي، بل جاءت لإنقاذ حياتهم، والسير بتاريخهم إلى الأمام، وحققت حسياً المراد (لي رأي خا ص بهذه المعجزات ربما أتناوله في كتاب قادم إن شاء الله تعالى).
كانت حياة بني إسرائيل قائمة على المعجزة، نجاتهم، هجراتهم، حوارهم مع النبي، طلباتهم، رزقهم... إذن كان هناك بيان، بيان الآية وبيان الظرف والواقع...
فماذا نسمي الكفر بعد كل هذا؟
أنه كفر عناد وليس كفر قصور.
وقد صرح علماء بني إسرائيل بهذا العناد المسبق، ذلك ما يشير إليه قوله تعالى: (فيما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا) ــ النساء 155 ــ
يفيد الرازي أن معنى (غلف) في الآية ينصرف إما إلى القول بأن قلوبنا أوعية للعلم، فما لنا حاجة لعلم أخر، أو أن هذه القلوب في أغطية، ولكن المعنى البعيد، التعنت والتكبر عن سماع الحق.
فهناك إنكار مبيَّت إذن...
الآية السابقة تحل المشكل كله... تبين حقيقة الإنكار المرفوض، الإنكار الذي هو حقا كفر، ذلك هو الإنكار الذي لم يأت عن قراءة جدية، ولا عن درس، ولا عن تبصر، ولا عن نقاش وسجال، بل عن طغيان مسبق، وإذا سبق الطغيانُ الموقفَ، لا ينفع العلم بأروع تجلياته.
لقائل يقول: أن المعجزات في حقيقتها (فن) قرآني يبغي من ورائه بيان صفاقة العناد الفكري، هي لم تقع، ولكن أمثلة بيانية تربوية تعليمية تهدف شرح حال المعطلين، وقسوة موقفهم، تشرح فلسفة الرفض المسبق...
ربما لهذا الرأي وجاهته، ولكن تبقى القضية الجوهرية قوية، أن الإنكار هنا عن عناد، عن موقف مصمم من قبل، وبالتالي، فإن الرأي المذكور لا يتعارض مع الفكرة بالأساس.
لا أريد هنا مناقشة الرأي المذكور من حيث المبدأ، ولكن أقول: القضية الجوهرية باقية، ذلك أن الإنكار الذي يعد كفرا، هو الإنكار القائم على عناد وعجرفة (استيقنوا بها وجحدتها أنفسهم).
إن كفر هؤلاء تغطية حقيقية، هناك حقيقة واضحة في لبهم، في معتقدهم، أدركوا ذلك تماما، ولكن هناك استهتار بالحقيقة هذه، لا يريدون الإعلان عنها، تقضي على الكثير مما تعودوا عليه، وربما لطواغيتهم الكلمة الفصل في ذلك.
هذا الإنكار هو الكفر بالمعنى الشرعي، وليس الإنكار الذي يتمخض عن تاريخ لا تاريخ له سوى النفي، سوى السلب، سوى التيه، خلاصة لواقع عملَ في ذات المُنكر مئات السنين، طبَعَهُ على الرفض لمثل هذه الموضوعات، فهل هو منكر حقا؟
يقول تعالى:(وما كان كبر عيك إعراضهم إن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً فتأتهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين.
يقول تعالى: (إنما يستجيب الذي يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وقالوا لولا نُزِّل عليه آية من ربه قل أن الله قادر على أن ينزِّل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون).
هناك موقف مسبق على الإنكار،
الكفر بالآيات ينصرف إلى إنكار دلالة الآيات الكونية على الحكمة الكونية، على توحيد الله وصفاته وعدله، وكما قلنا سابقا،ليس هناك كفر بالله بالمعنى الكامل.
لقد استعرض القرآن الكريم الكثير من الآيات الكونية بغية تسويق العقيدة الإلهية كما يراها، وقضايا الغيب التي تحتاج إلى برهان وشاهد، ولكن كما آمن نفر، أنكر نفر، لقد أنكر ثلة من البشر دلالة الشواهد الكونية على وحدة الخالق، أو بالأحرى لم يستجيبوا لمنطق هذه الآيات...
الكفر هنا كما هو الكفر الذي سلف الحديث عنه، كفر عن عناد، عن قلب قاس، وليس كفر تفنيد، الكفار لم يفككوا الشاهد القرآني، بل أكتفوا بالرفض، بالتكذيب...
هم كفار لأنهم آمنوا في دواخل ضمائرهم، ولكن خانوا هذه الضمائر، تنكروا لما أملته عليهم عقولهم وقراءاتهم للواقع.
يقول بعض العلماء أن هذا الآيات الكونية التي ساقها القرآن الكريم كافية للاستدلال على الحكمة الإلهية فيما إذا خلي الإنسان ونفسه، أي مجرد أن يخلد الإنسان إلى نفسه وتأمل هذه الشواهد سوف يصل إلى الحكمة الإلهية.
ترى ما هو مفهوم النفس لدى هؤلاء؟
يتصور هؤلاء أن النفس الإنسانية طاقة مستعدة للوصول إلى الحقيقة بسهولة، هناك شفافية نفسية، هناك صفاء نفسي، هناك ظروف وصول مثالية إلى الحقيقة، نسوا أن النفس تاريخ، وثقافة، وبنيات، وتجارب، وإن أي قرار عقدي، معرفي، ثقافي، إنما هو قرار مشوب، ليس قرارا مستقلا، ليس قرارا صافيا.
الإنسان يقرأ هذه الشواهد وغيرها عبر طبقات من التكوين المعرفي والثقافي والنفسي، طبقات متداخلة معقدة.
يقول تعالى: (قد نعلم أنه ليحزنك الذين يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) ـ الأنعام 33 ــ
يروى في تفسير هذه الآية الكريمة أن هناك أكثر من واحد كان يقول أن محمداً ليس كاذبا، ولكن نحن نكذبه خوفاً على أرضنا وسلطاننا وقوتنا، فهذا ابن الحكم يقول: أن محمداً لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، فنزلت الآية. وعليه لم يكونوا يكذبوه بقلوبهم، بل يجحدون النبوة بألسنتهم فقط، وهذا، فتكفيرهم بنص القرآن بسبب هذا الموقف المزدوج.
يقول تعالى: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) ـ عمران 70 ــ
كفر عن علم، فالمخاطَب هم علماء اليهود، وكانوا يعرفون البشارة على رسول الله صلى ال له عليه وآله وسلم، كانت هناك معرفة تامة، وضوح بالآية، وعقول مستوعبة، ولكنها الذوات التي آلتْ العناد.