منذ صباي وعشق مصر في الفكر والقلب. أحببناها فكرا تنويريا وثقافة وأدبا رفيعا وأفلاما وموسيقى رائعة. استلهمنا من شعار quot;الدين لله والوطن للجميعquot;، وانفتاح المرأة وحركاتها التحررية، ومن تعايش الأديان، وذلك برغم تحركات ونشاطات (الإخوان المسلمون) المتطرفة منذ ولادة تنظيمهم الديني السياسي أواخر العشرينات، وبرغم حملات المتزمتين في الأزهر.
اللوحة بعد عقود من السنين قد صارت مغايرة تماما، فقد انقض التطرف الديني المسيَّس، والتزمت بكل أشكاله، على حقوق المرأة والأقليات الدينية وعلى الفكر والفن وعلى التعليم، الذي كان طه حسين زمنا وزيره.
مصر لا تزال القوة العربية الكبرى، والنظام المصري يتبع سياسة خارجية عقلانية، واقعية، معتدلة، خصوصا في القضية الفلسطينية؛ وفي القاهرة تنعقد جلسات الحوار بين الفلسطينيين، تلك المحاولات التي تصطدم دوما بتعنت حماس وارتباطها المصيري بنظام آيات الله. صحيح إن خالد مشعل نوه باحتمال القبول بحل الدولتين، ولكن على أساس هدنة عشر سنوات، أي تبقى حالة الحرب وتستمر، بينما تواصل إيران تدخلها المروع من خلال حزب الله وحماس والجهاد. هذا صحيح، ولكن مصر في خطر جراء النشاط الإخواني والخطط التخريبية لحزب الله، ومصر تتعرض لحملات سياسية وإعلامية ساخنة من النظام الإيراني لأنها تعلن قلقها من المشروع النووي الإيراني وبسبب سياستها المعتدلة.
إن الأخطار على مصر كبيرة، ولكن لا يبدو لنا أن الحكومة المصرية تدرك ذلك بما فيه الكفاية. إن الإخوان المسلمين هم الذين يحكمون الشارع المصري فعلا، وهم الذين يحتكرون إدارة التعليم ومناهجه لغسل أدمغة النشء الجديد بالتطرف وكراهية الآخر، والقبطي خاصة، واحتقار المرأة، والتحذير من الفكر التنويري العلمي، ومن الإبداع الفني الذي لا يتطابق مع المنظر المتزمت للإسلام السياسي وشيوخ متزمتين قابعين في الأزهر.
لقد كان تسلل حزب الله بخطته التخريبية الحدث المصري والعربي البارز خلال الأسابيع الماضية، وخلال هذه الفترة انكشف بقوة مدى عداء النظام الإيراني لسياسات الاعتدال ولمصر بالذات، التي تشكل أحد العوائق الكبرى أمام النزعة التوسعية الإيرانية التي تذكر بأحلام الشاه الإمبراطورية، وبدلا من أن يدافع الإخوان عن سيادة الوطن، فإنهم أعلنوا صراحة دعمهم لمؤامرة حزب الله بحجة أن الأخير كان يريد مساعدة أهالي غزة ويجب شكره لا إدانة مخططه التخريبي.
إن تضامن الإخوان مع حزب الله وإيران، برغم اختلاف المذهب، يعود في نظرنا إلى أن كلا من هذه القوى تعمل على نسف استقرار مصر؛ هذا أولا. أما العامل الثاني، فهو إيديولوجي، فحزب الله وآيات الله من جهة، والإخوان من جهة أخرى، فرعان لأيديولوجية واحدة برغم اختلاف المذهب، أي إيديولوجية الإسلام السياسي، وهما يلتقيان عندما لا توجد حساسية مذهبية كما في مصر، وفي نفس الوقت يتزاحمان، في السعي لإقامة الدولة الإسلامية العظمى على الأرض. إن هناك وقائع بهذا الشأن جديرة بالذكر:
في فترة رئاسة آية الله كروبي quot;الإصلاحيquot; الأولى للبرلمان قام بتأسي شبكة لدعم التنظيمات الأصولية على النطاق العالمي، وهذه حقيقة يؤكدها كتاب quot; رقصة المذبوحquot; عن إيران، الذي توقفنا عنده في عدة مقالات، وكان من النشيطين في الشبكة السيد حسن الترابي. كما نشرت إيلاف في 14 فبراير المنصرم تقريرا عن علاقات إيران والإخوان المسلمين بالاستناد لمراكز أبحاث أميركية.
التقرير المذكور يلخص مقالة للباحث quot;مهدي خلجيquot; يرد فيه أنه، رغم تنافر المذهبين المزمن، فإن هناك منذ سنوات علاقات غير رسمية بين طهران وإخوان مصر لأن المذهب الشيعي يلقى قبولا من التيار السني المصري، عكس كثير من الدول العربية، وقد ازداد التعاون بعد الحرب العراقية ـ الإيرانية. يضاف أن خميني ترجم قبل الثورة في 1979 كتابين لسيد قطب.
إن نظام الملالي مستعد للتعاون المرحلي التكتيكي مع أية قوة أو جماعة إسلامية متطرفة عندما يكون ذلك لخدمة مخططات التوسع الإيرانية، فلا عجب أيضا في وجود تعاون إيراني مع القاعدة، وتزويدها بأسلحة متطورة ضد الدروع، كما كشف الجنرال البريطاني دان ماكنيل في حينه ونقلت صحيفة الغارديان تصريحه في 4 أكتوبر المنصرم، وتأكد أيضا أن زعيم القاعدة في الخليج، عبد الله الغرابي، يعيش ويتحرك بحرية في طهران، وهذا ما نشرته صحيفة نيويورك تايمس - كل ذلك لإحراج القوات الأميركية، وفرض تنازلات كبرى على إدارة أوباما بوهم إمكان دعم إيران لجهود الاستقرار في أفغانستان!!
أجل، إن مصر، التي نحبها من القلب، مهددة خارجيا وداخليا، وحسب اجتهادنا، فإن السبيل الرشيد لمواجهة الأخطار والتحديات هو تحقيق درجة مناسبة من الانفتاح الديمقراطي على التيارات العلمانية، والوقوف بحزم تجاه كل أشكال التمييز ضد الأقباط، ـ هذا التمييز المستمر منذ سنوات، والذي كان مرض الخنازير كشافا جديدا له. لقد كان موقف مصر من خلية الإرهاب لحزب الله صحيحا ومشروعا، ولابد من كل الحزم القضائي تجاه أعمال التخريب، ورفض كل ضغوط سياسية في هذا الشأن.
إن القيادة المصرية مدعوة أيضا إلى إعادة دراسة وتقييم وتنقيح مناهج التعليم في الشؤون الاجتماعية والتاريخية وفي كتب المطالعات، فهي مكتوبة، حسبما قرانا نماذج كثيرة منها في إيلاف، بتأثير الأفكار الإخوانية؛ علما بأن أعدادا من المدرسين يبشرون بأفكار التطرف والكراهية، وهو ما أشارت له مقالات وتقارير عديدة نشرت في حينه.
إن الملاحظ كذلك دور لفيف من رجال الدين في وسائل الإعلام الرسمية، وكان آخر ما لفت نظرنا قول أحد المشايخ من القناة الفضائية quot;المصريةquot; بأن حق الطلاق حصر بيد الرجل لأن المرأة quot;عاطفية وقد تقوم ببعض الأشياءquot;!!
إن وسائل الإعلام، لو أحسن استخدامها، يمكن أن تلعب دورا هائلا في نشر الأفكار والمبادئ الإنسانية والتنويرية والعلمية التي كان يبشر بها طه حسين وإسماعيل مظهر وعلي عبد الرازق ومنصور فهمي والعقاد ورمسيس يونان، ونجيب محفوظ وسلامة موسى، زكريا إبراهيم، وعشرات غيرهم من المفكرين والكتاب الأفذاذ الذين أنجبتهم مصر.
إن مصر غالية وعزيزة، ومن هذا المنطلق نكتب هذه الكلمات.