كثيرا ما نتوهم بإن ظاهرة العنف من حرب وقتل وتضييق على حريات الآخرين وسلب لحقوقهم وإيذاء للجسد المعادي وإحراق للتاريخ والثقافات الأخرى... كثيرا ما نتوهم بأنها مرض شرقي متأصل، وذلك بشكل حصري نافذ المفعول منذ أن خلق الله الإنسان ! وقد ترسخ هذا الوهم الغريب في الأذهان والنفوس وراح يشكل سمفونية الحديث عن مشاكل العالم والأخطار التي تهدده بعد إشتداد ظاهرة التعصب الديني وما صاحب ذلك من مواقف مركزية إنوية شرقية تؤصِّل لأحادية الفكر، ومطلقيَّة الدين ـ الدين الإسلامي هنا ــ وتشرع للسيف منقذا من الضلال، وقاهرا للكفر والصليب. وهو الموقف الذي شجبه غربيون كبار، منطلقين ليس من وقائع معروفة بل من تحليلهم للذات الإنسانية حسب مقاسات يقولون عنها علمية، تعتمد التجربة والتحليل، منبهين إلى ما عانت منه البشرية جرّاء حربين عالميتين مهلكتين، وقبلها ما فعله (روبرت نابليون) الذي حطّم كل خيرات أوربا، مستذكرين مأساة الهنود الحمر، مشيرين إلى دور الاستعمار الأوربي في خلق مناطق نزاع وصراع ما زال العالم يعاني منها، فلماذا هذا التركيز على العنف الإسلامي دون غيره؟
مجرّد سؤال...
هناك ما هو اكثر من ذلك، فقد شرعن الغرب للنزعة العنفية في الإنسان، واعتبرها طبيعية، وذات صفة لازمة للتكوين البشري بالفطرة والتكوين، فهو مخلوق (شرير) بالطبع، بدليل إنّه سليل مشترك حيواني يُدَّني من عتبة الشعور بما يتفرّد به الإنسان من عقل وحكمة وقدرة على تجريد المحسوسات، بل وقدرة تتسامى به في كثير من الأحيان على المادة، حتى بالنسبة لأناس لا يؤمنون بروح ولا دين، ولو لبرهة زمنية خاطفة، فهي ظاهرة تؤكد إمكان إنفلات الإنسان من طغيان المادة وإستئثار الشر به كليا.
إن ما قيل عن غريزة (العدوان) أو دافعه الفطري حسب منتَج العلامة الكبير (سيجموند فرويد) تُرغِم على إعتبار (الآخر) خطر، وإن الموت آت من هذا (الآخر)، وربما تقنع أن الحرب حصيلة طبيعية وقد تكون مرغوبة في بعض الأحيان، بل هي واجبة، وعندما يكون مشروع الوجود الإنساني هو صراع بين دوافع الحياة من جهة ودوافع الموت من جهة أخرى، وإلى الحد الذي يقترب من كونه حقيقة دامغة مكتوبة على جبين الإنسان، فماذا ننتظر حينئذ غير الدم علامة أو مدخلا جوهريا لدراسة التاريخ؟
لقد إقترح (فرويد) العظيم أن تمارس الحضارة رسالة كبح وليس بناء، فنحن مضطرون إليها كي نهذب الطبيعة وليس لبنائها، وبناؤها يخفي تحته سرّا خفيا،ذلك هو الخوف من الحرب، الخوف من الموت، فالدم هو المدخل الموضوعي لوعي التاريخ، أو فهم التاريخ، وفيما يتوارى الوعي خلف غياهب الغول المهول (اللاوعي) إنما يتناسى المشرع للنظرية إن إكتشاف تلك الكهوف الغائرة إنما هو صناعة أ و عمل الوعي المسكين، الذي سرعان من يسجل هزيمته المنكرة أ مام ضغط المخفي في الأقباع القصية!!
هل هي إلاّ عملية ذبح للوعي من الوريد إلى الوريد؟ وهل هي إلاّ مسوغ علمي لتبرير الحرب بشكل من الأشكال؟
لست أدري...
جاء الفيلسوف العظيم (هيغل) ليعلي من شأن (الله)، فاعتبره خاتمة التاريخ، مماهيا بينه وبين العقل، ولكن عبر حرب ضارية ضروس بين المتضادات،يحتل النفي فيها أساس الحركة والتشكل والتأسيس، حتى قالوا : (إذا كان الإيجابي ضرورة فإن السلبي ضرورة لهذا الإيجابي)، وبالتالي، يكون هيغل قد أدخل الموت في صلب حركة التاريخ، وهي تسيرنحو راعيها الأول والآخير، ذلك هو (الله)!
بين حيوانية دارون أو تأويل النظرية حيوانيا وبين لاشعورية فرويد وأصالة الدافع العدواني وحركة السلب النافية إلى حد الموت والفناء، كان الضمير الغربي الحديث يتشبّع بهوس القوة من أجل البقاء، يمارسها مع نفسه ومع غيره،القوة لذات القوة، وإنجاز أي شيء لأن هناك قدرة على الإنجاز ليس إلاّ، حتى لو كان قنابل ذرية وجراثيم مبيدة للبشر قاطبة!
لم يكن الفيلسوف الكبير (ميشيل فوكو) في دعوته إلى تفكيك (القوة) منطلقا من رغبة ذاتية لتحرير ذاته من عنت قد أستبد به، بل ربما من وخز الضمير الذي لا تقرّه حضارة الدم الأزرق بأنّه حقيقة تشع بالخير، وهو عندما يستعرض المؤسسة، أي مؤسسة، بأنها غياهب من علائق الموت والنفي والقهر وتصفيد الأجساد وتعليق الرؤوس ونفي وتشريد،إنّما يدين التاريخ بل يدين القدر، لأن كل ذلك قدر لا تخرمه كلمة مصلح، ولا أوهام وحي سماوي،ولا لمسة أ نثى تشعل فينا حرارة دفق لذيذ.
لقد حطّم نابليون أوربا، كل خيرات أوربا،وفتن هتلر أوربا بهوس أصالة ونقاء العرق، وأصّل ستالين خرافة التقدم على حساب جماجم البشر، وشبّع (موسولني) شرايين الدولة بدماء من وقعوا على عهدها المقدس حسب نظرية العقد الإجتماعي لجان جاك روسو، وتنفست أجساد الأرض الثلجية الميتة في السويد بأشجار أنقرة التركية الجميلة، وما زالت الأرض تئن من رائحة الموت الزؤام،ارض الهنود الحمر!
لقد تفتق العلم الإجتماعي عن أنثروبولجيا طاغية الحس،مادية النظر، استعلائية العقل، حولت العقلية إلى عقل، فتصدّع المجتمع البشري،وتنازعت جسده الجميل نظريات التصنيف والتقسيم والتنويع على أسا س الألوان والعطوم والروائح.
أرض الشبق والعود والقهوة السمراء والبهار والجسد الملتهب بغريزة الوقود الشهوي الذي لا يرتوي مهما غُرِزّ بماء الشَبَع...
ذلك هو الشرق!
لم يكن الفيلسوف الكبير (ليبنتز) ينطلق من فراغ وهو يدعو إلى تحرير الآخر من بربرية الإسلام، والوثنية المحمدية وبدائية الأرض، بل هي فكرة الإصطفاء الكوني التي خطّها الله بدمه الذي سُفِح هدرا بقتل السيد المسيح من أجل الإنسان!!
العنف لا هوية له، ولا ضمير، ظاهرة عالمية، تاريخية، ويجب على الجميع مواجهته بالفكر والثقافة والعلم، إنها رسالة كل شريف في هذا العالم.