نشرنا، منذ الأسابيع الأولى لسقوط النظام السابق، عدة مقالات عن هيمنة رجال الدين والأحزاب الدينية على مقاليد المجتمع تدريجيا، والسعي لجعل العراق دولة الدكتاتورية الدينية، التي تخنق حريات الناس، وتحصي عليهم أنفاسهم وسكناتهم، وكان أحد تلك المقالات بعنوان: quot; هل يريدونها طالبان عراقية؟!quot;
لقد كُتب الكثير جدا، وبأقلام العديد من الكتاب العراقيين، عن احتلال المساجد والمباني، وعن المحاكم القرقوشية، وعن مطاردة المسيحيين والصابئة المندائيين، وعن فرض الحجاب بالقوة والتهديد والضغوط،، وعن مهاجمة الطالبات والطلبة كما جرى في البصرة، وعن تحويل بعض الجامعات لحيسينيات، وعن مهاجمة محلات الخمور والموسيقى والسينمات - إلى آخر ذلك من ممارسات متخلفة ووحشية، بدأتها عصابات مقتدى الصدر في بغداد والبصرة، ولحقتها بؤر القاعدة والمتطرفون من السنة، لاسيما وفي الموصل.
لقد ذهب مئات الآلاف ضحايا هذه الممارسات الإجرامية، هذا لو حسبنا أعداد المهاجرين من المسيحيين الهاربين من حملات المليشيات والقاعدة.
لقد سعت أحزاب الإتلاف، وهي مرتبطة تماما بمرجعية السيد السيستاني، لفرض هيمنتها المطلقة على السلطة والمجتمع باسم مظلومية آل البيت، والثأر للتمييز الطائفي الذي مارسه صدام، وبعد أن هدأت الحالة تدريجيا منذ العام الماضي، وتحسن الأمن نسبيا، وبدا المواطنون يتنفسون بعض الشيء، بعيدا عن عصابات المهدي وسواها؛ تشرع اليوم أفاعي الطائفية المقيتة والظلامية الخانقة من جديد بتسميم الأجواء، وشحنها طائفيا باسم كون الشيعة أكثرية ولذا يجب أن تكون quot;الحاكميةquot; لهم، وهو ما أعلنه للتو صدر الدين القبانجي، القيادي في المجلس الأعلى، والناطق باسم السيستاني.
لقد تعرض هذا الخطاب المسموم لنقد العديد من الجهات السياسية العراقية، وتناوله بعمق وصراحة عدد من كتابنا، وخصوصا مقالات ثلاثة للكاتب العراقي المعروف كاظم حبيب.
أما أن الشيعة هم أكثرية في العراق فصحيح، وأما أن صدام، [وحتى قبله]، مارس سياسة التمييز الطائفي، فذلك لا يحتاج لدليل، ولكن هل أحزاب الإتلاف هي وحدها تمثل شيعة العراق؟ ألا يتوزع الساسة الشيعة على أحزاب وكتل أخرى، كما كانت الحالة دوما منذ العهد الملكي؟ ثم ماذا لو جاءت الانتخابات النيابية لغير صالح الأحزاب الدينية الشيعية يوما؟ أو كيف نقيم قول جلال الصغير برفض أي رئيس وزراء من خارج الإتلاف ولو كان شيعيا؟ أين الدستور إذن وأين النظام البرلماني؟ ثم هل طروحات القبانجي باسم الحوزة الدينية الشيعية تمثل اليوم مواقف كل أحزاب الإتلاف بعد أن رفع المالكي شعارات غير طائفية، وراح يدعو إلى إتلافات سياسية وطنية مختلطة، ولسيادة القانون؟ القنبانجي يصرح أن ما تقوله المرجعية الدينية الشيعية هو القانون وهو المرجع السياسي الفصل. فهل نحن في دولة نظام ولاية الفقيه؟! إن تدخل المرجعية المستمر في أدق تفاصيل الحياة السياسية ممارسة ضد الديمقراطية، وكان يجب وقفها منذ العام الأول لتحرير العراق، عندما ألح السيد السيستاني على إجراء انتخابات مبكرة في ذلك العام نفسه، ومن حسن الحظ أن مكتب السيستاني أصدر للتو بيانا يتعارض مع خطبة القبانجي عن quot;الحاكميةquot;.
إن ما يقوم به اليوم بعض قادة المجلس الأعلى خطير جدا ومثير للإدانة، خاصة وقبل خطاب القنبانجي قاد جلال الصغير حملة في البرلمان ضد الخمور ومتعاطيها، وشارك في الحملة كل البرلمانيين الإسلاميين، وكأنهم ساهموا في حل مشاكل المواطنين ولم يبق غير شن حرب دينية أخلاقية على فئات بريئة من الناس. إنها حملة هائجة، مائجة، مستمرة، في حين يقف البرلمانيون العلمانيون وأحزابهم مواقف مائعة مترددة خوفا من اتهامات أمثال هذا الصغير. لكن ما يجري هو أبشع وأكثر وحشية، فباسم محاربة الفجور، يشنون حملة ضد quot;التخنثquot;، ويهيجون مجرمي المليشيات لمطاردتهم، بل وحرقهم وهم أحياء، كما جرى لخمسة وعشرين ضحية من المتهمين بكونهم quot;مثليينquot;. فيا للوحشية، ويا لفضيحة صمت القيادات الوطنية الديمقراطية عن هذه العمليات الوحشية، التي تدمغ جبين الدولة العراقية بالعار.
لقد أحسن الدكتور حبيب وكتاب عراقيون آخرون حين أشاروا إلى أن في العراق ديانات لا تحرم شرب الخمور، وإلى أن شربها كان ساريا بين كثرة من العراقيين من مختلف الأديان، وإلى أن رجالا محسوبين على الدين كانوا يتعاطونها سرا ويدينونها علنا، مثلما هناك بينهم مثليون؛ ولو عاد هؤلاء إلى كتاب كلاسيكي معتمد كالعقد الفريد، لوجد فصولا عن تحليل الخمور تستند إلى أقوال الفقهاء والصحابة، الذين كان بعضهم يتعاطونها.
نعم، لقد حلوا كل مشاكل المواطنين: من خدمات، ومحاربة الفساد، ومكافحة البطالة، وإنهاء المحاصصة، ورفع المستوى المعيشي للشعب، الذي تقول إحصاءات وزارة التخطيط العراقية بأن ربعه تحت مستوى الفقر؛ حلوا كل هذه المعضلات ليقوموا اليوم بإثارة ضجة غوغائية، بل حرب ظلامية، وهم المتربعون على أضخم الامتيازات، ومنهم من سرق ويسرق الملايين من أموال التعمير والخدمات، ولعل بينهم من يشربون وأكثر!!
أما المثلية، فظاهرة موجودة في بلدان العالم، وهي في العراق على مر العصور، وقد تناولها الدكتور علي الوردي في كتبه، حين تحدث عن quot;الفاعلquot; وquot;المفعول بهquot;، والعلاج لا يكون بالقسر، ناهيكم عن الحرق حتى الموت، كما تفعل اليوم عصابات الصدر وغيرها رغم محاولة الصدريين التبرؤ من ذلك علنا.
إن هذه التطورات السلبية المرعبة تكاد تجهز على ما تحقق من استقرار نسبي، وتهدد بإثارة العنف وتأجيج الطائفية في المجتمع، ولا شك أن لمثيري هذه الضجة الهائجة أجندتهم الخاصة الملتقية مع الأجندات الإيرانية، وكما يقول بعض الكتاب بحق، فإنها أيضا لإحراج المالكي وحمله على العودة عن شعاراته الجديدة، وقبول دعوة المجلس الأعلى بإعادة لملمة الإتلاف القديم كما كان، وهو ما طلبه لاريجاني منهم ومن المرجعية الدينية في النجف.
إن أمام المالكي اليوم فرصة فريدة للبرهنة على قرن القول بالعمل، ورفض الطائفية بإجراءات عملية بدا بتركيبة مستشاريه، وهو مدعو لعدم الاستمرار في التشبث باسم المرجعية الدينية مهما كان مقامها الروحي عاليا، فللمرجعية الدينية مسئولياتها الروحية والفقهية وهي ليست بالمرجعية السياسية للعراقيين، كما أنها ليست مرجعية دينية لكل العراقيين. إن واجب الحكومة معاقبة الوحوش التي تحرق الشبان، وتعتدي على محلات الخمور، وتحصي أنفاس الناس، وإلا فلن يبقى معنى لدولة القانون ولحقوق الإنسان. أما الشخصيات والأحزاب العراقية العلمانية،[بمعنى فصل السياسة عن الدين]، فإن عليها مسئوليات تاريخية لحماية سيادة القانون والمبادئ الديمقراطية، والدفاع بلا تردد عن حقوق الإنسان العراقي وحرياته الشخصية، وإن التاريخ لن يرحم المترددين والمتقاعسين، لأي سبب كان، عن القيام بمسئولياتهم أمام العراق وشعب العراق.
أخيرا، إن الإسلام السياسي، بكل فروعه ومذاهبه، يبرهن من جديد، وفي كل مكان يوجد ويمارس، على معاداته الثابتة للديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم المراوغات وأساليب التقيّة السياسية، وانتحال الشعارات بحسب الظروف والأحوال.