يؤرخ الجميع للتاسع من يونيو عام 1967، كلحظة انكسار أو انهيار المشروع العلماني المصري، وبذات الدرجة المشروع القومي العروبي، ويرصدون اتجاه شعوب المنطقة المسماة بالعربية من يومها نحو التدين، بحثاً عن العون والسلوى من السماء، ماداموا قد عجزوا عن تأسيس واقع دنيوي كانوا يتصورونه مجيداً، فإذا به يتمخض عن جنين مشوه، يُلحق العار بمن أنجبه، لا المجد الذي ظللنا نتغنى به لعقد ونصف العقد من الزمان.
ما يقتضي منا الالتفات هنا، أن توجه الجماهير نحو الدين، لم يأخذ شكل سعي إنساني للوصول إلى الحقيقة عبر بوابة الدين، بعد أن عجز عن طريق المشروع الإنساني، أن يجد تحقيقاً لذاته، التي لا نبالغ حين نزعم أنها قد أصيبت في مقتل، جراء ما سمي بنكسة 1967، والتي قد تسببت في استشعار الجماهير بالإحباط والعجز على المستوى الشخصي، وليس فقط من خلال المنظور الجمعي القومي، والبعيد نسبياً عن مستوى الحياة والطموح الشخصي للإنسان الفرد.
لم يترتب على تلك النكسة تصدع المشروع العلماني فقط، لكي يستبدله الفرد أو الشعوب ببساطة بالمشروع أو التوجه الديني، كأقرب بديل جاهز، وضارب بجذوره في عمق تربة المنطقة.. فقد كان أخطر ما تصدع يومها، هو ثقة الإنسان الفرد في ذاته.. في قدرته على فهم العالم من حوله، وبالتالي في جدوى إعمال عقله التحليلي أو النقدي، الذي يستطيع به تلمس طريقه الجديد، سعياً لإصلاح دنياه وآخرته، وفق ما تعد به جميع الأديان.. وهو ما أدى به أن يقدم ما لو استقالة مسببة من العقل والتفكير، ليبدأ في البحث عن حضن يحتويه، يوفر له الأمان والدفء، ويزيل عنه -مرة وإلى الأبد- مسئولية ذاته، ليتحملها عنه من هم جديرون بتحملها.. بالطبع لم يجد حوله من هم أكثر جدارة واستعداداً، بل ولهفة لتحمل هذه المسئولية، سوى هؤلاء الذين يدعون أنهم الناطقون الرسميون باسم الله!!
هما إذن درجتي سلم -يمكن لمن يشاء اعتبارهما تفضيان إلى نفق مظلم- قد خطا إليهما إنسان المنطقة، الأولى هي استدارته عن العلم، الذي يستطيع به معالجة الواقع وتطويعه، والاتجاه إلى نافذة وحيدة، أو حتى ثقب ضيق، هو الرؤية الدينية للعالم والوجود، مهملاً باقي روافد الثقافة الإنسانية.. الدرجة الثانية إلى أسفل هي تخلي الإنسان عن دوره في مسار تدينه وتوجهه الجديد، ليتوقف عن التفاعل العقلي والإيماني مع نصوصه الدينية المقدسة، يتلمس عن طريقها معالم طريقه الجديد، ويقوم بنفسه بعملية القياس والموائمة بين تعاليم الدين ووصاياه، التي تنتمي إلى عشرات القرون الماضية، وبين واقعه الحالي، المختلف بالطبع اختلافاً جذرياً، إن لم يكن اختلافاً تاماً عن واقع الحال.. ليوكل عملية الإيمان بشقيها العملي والغيبي إلى الوكلاء المقدسين، الذين يحرصون مثلهم مثل العسكر، على زيهم ومظهرهم المميز، حتى لايختلط الأمر على من يراهم، فيحسبهم من الرعية المنقادة، وليس من طبقة وكلاء الله، أو ربما أشباه الآلهة.
رغم أن الإسلام ndash;الديانة الرئيسة بمنطقة الشرق الأوسط- لا يعرف الكهنة ولا الكهنوت، إلا أن الحاجة كما يقال أم الاختراع، فكان أن اعتلى من يعرفون بالفقهاء أو المتفيقهون في الدين سدة الكهنوت الإسلامي، لتتهافت عليهم الجماهير التي تبحث عن راع وسيد ومسئول عنها وعن مصيرها الدنيوي والأخروي، بذات قدر تهافت وانبطاح الأقباط الأرثوذكس على أعتاب الكهنة المقدسة، خاصة وأن الكهنوت ركن جذري في عقيدة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لكن سلطانه الحالي قد امتد وفق الظروف المستجدة، ليملأ مساحة لم تكن له في يوم من الأيام، طوال الألفي عام، عمر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
المشكلة في تلك الدرجة الثانية من السلم، التي هبطت إليها جماهير المنطقة، فولت أمورها العامة والخاصة إلى السادة الوكلاء، تنبع خطورتها من تضاعف نواحي الخلل الحتمي في مسار الحياة وشكلها بالمنطقة، ولنحاول تعداد أركان أو عناصر ذلك الخلل:
في حين أن أهم ما تتميز به المرحلة الحالية من الحضارة الإنسانية هو التوجه نحو الديموقراطية في سائر مجالات الحياة الإنسانية، وليس بالطبع في نظام الحكم السياسي فقط، بحيث يكون رأي المواطن الفرد، الذي يشكل ما يعرف بالرأي العام، هو الموجه الأوحد لمسيرة الشعوب ولقرارات الحكام، نجد شعوبنا تتجه وجهة معاكسة تماماً، إذ نجد إنسان هذه المنطقة يسلم قياده في أخص خصوصياته إلى وكلاء، بداية من خصوصية إيمانه القلبي بالإله، وانتهاء بطيعة وشكل علاقته الجنسية بزوجته، وبروتوكولات دخول المرحاض.. هذا يضعنا أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما أن يكون العالم الذي يتبنى الديموقراطية يتجه نحو الضياع، فيما نتجه نحن بفضل وكلائنا نحو الصلاح والفلاح، وإما أن العكس هو الصحيح، وأننا نحاول العدو إلى أسفل، بالمعاكسة لحركة التاريخ ودوران الأرض حول الشمس!!
يقول لنا الواقع الحال، كما يقول التاريخ، أن الوكلاء المقدسين هؤلاء، والذين تضع فيهم الجماهير كامل ثقتها، هم الذين دأبوا في جميع مراحل التاريخ، على التحالف مع الحكام الطغاة، فإذا كان الحاكم الطاغية يرهب الجماهير بالعصا، فمن المستحسن أيضاً أن يوجد إلى جانبه من يقوم عنه بتغييب الجماهير، سواء بدعوى الرضوخ لمشيئة الله والرضاء بالقضاء والقدر، أو بإلهاء الناس عن واقعهم المزري، بالآمال في جنة الخلد في الحياة الأخرى، أو بصرف انتباههم إلى قضايا هامشية ومصطنعة، مثل الدوران حول محور الجنس والمرأة، علاوة بالطبع على تأجيج نار التعصب بين أتباع الديانات والطوائف المختلفة، فيشتبك الناس مع بعضهم البعض، بدلاً من الالتفات إلى ظالميهم وقاهريهم.
هؤلاء الوكلاء المقدسين، والذين في الأغلب قد نذروا حياتهم لما يسمى بالعلوم الدينية، هم بالحتم أقل عناصر المجتمع علماً بالدنيا الواقعية وعلومها وعلاقاتها شيدة التعقيد سريعة التغير، وهذا يعني أن هيمنتهم على سائر الأمور، والفتوى المقدسة في كل كبيرة وصغيرة مما يخص أمور الحياة، هي بمثابة إفساد لمعالم الحياة المعاصرة، ومكابح تعوق مسيرة شعوبنا، في عالم قائم على التنافس الرهيب بين الشعوب على الإنجاز والابتكار العلمي والتكنولوجي، ولن يرحم هذا العالم في سباقه، تلك الشعوب التي تتلكأ وتتعثر في الطريق، بحجة ارتباطها بوصايا مقدسة، أو بفتاوى وكلاء مقدسين.
هؤلاء المشايخ والبطاركة المقدسين، وفي ضوء هذه البيئة الشمولية، والخضوع والخنوع المذري من رعاياهم، لا ينبغي لنا أن نتوقع منهم أن ينسلخوا عن طبيعتهم البشرية، وأن يتحولوا إلى ملائكة كما يحلو للجماهير أن تتصور، وأن يقدموا مصالح الجماهير على مصالحهم الشخصية، وعلى نفوذهم وسلطانهم، أو على الثروات التي تلقى ببساطة بين أيديهم، فلقد صاروا جميعاً بفضل ملابسهم وعمائمهم ولحاهم الطويلة، صاروا أصحاب سلطة مطلقة، ونحن قد تعلمنا أن quot;السلطة المطلقة مفسدة مطلقةquot;.
هكذا مارس الوكلاء المقدسون تغييب عقول الشعوب التي كرمتهم ووضعتهم فوق رؤوسها، وهكذا أيضاً ضربوا عرض الحائط بكل مصالح الناس، في سبيل تعظيم وتأكيد سيطرتهم الإلهية، هكذا رأينا من يتحدثون عن التداوي ببول البعير، وآخرون يتحدثون عن الاستشفاء ببول الرسول، ورأينا الأقباط من حملة الشهادات العليا والكتوراه، يحملون أكياساً من تراب قبر أحد الكهنة، ليخلطوا بعض محتواه بالماء، ويشربونه فيشفون من جميع أمراضهم، في حين يسرع باباهم المعظم إلى أمريكا العلمانية، ليجري عملية غسيل كلى عادية، تقوم بها آلاف المستشفيات في مصر، ورأينا قداسة بابا الإسكندرية المعظم يتحدى القضاء المصري، ويضرب عرض الحائط بمصالح شعبه، فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية، متعللا بعذر أقبح من ذنب، حيث يدعي أن رؤيته لمسألة الزواج والطلاق ليست رؤية شخصية، يقابلها رؤى مسيحية أخرى لذات المسألة، وتختلف جوهرياً عن رؤية قداسته.. يرى قداسته أن رؤياه هو بالتحديد هي رؤية إلهية، وأن ما يصدر من فمه المقدس هو كلام الله وليس كلام إنسان، وهذا يجعل من حقه ألا يلتفت إلى أنين الناس البسطاء المؤمنين، الذين يدفعون من كدهم ثمن ما يأكل وما يلبس، وما يمسك في يده من صلبان ذهبية.
كيف السبيل إلى تخطي تلك العقبة الكأداء في طريق شعوبنا، كيف الخروج من عباءة رجال الدين؟
قد يكون لنا مع هذا التساؤل جولات أخرى.
[email protected]