كان رأي الكثير من المحللين والخبراء من المفكرين والسياسيين إن (ثورة) الأمة الإيرانية ضد الشاه بقيادة السيد الخميني جاءت نتيجة فشل مشروع) الشاه (التحديثي، أي جاءت تلك (الثورة) ضد محاولة التحديث الشاهنشاهية ذات الطابع الغربي المتضاد جزئيا أو كليا مع تاريخ وهوية وتطلعات الشعوب الإيرانية، أو أن ذلك من الأسباب الرئيسية في تلك الثورة التي كان لها أكبر الأثر في تغيّرات سياسية وفكرية مدوية في المنطقة والعالم، وما زال لها مثلر هذا التغيير الكبير على مجريات الأحداث في المنطقة والعالم.
فهل جاءت (الانتفاضة!) الجديدة كـ ( رد) فعل ولكن بلغة أخرى، وضمن سياق جديد لا ينتمي إلى عملة التحديث الغربي التي غامر الشاه بها؟ وبعبارة صريحة، إنها جاءت نتيجة محاولات السلطة الدينية لفرض نموذ ج (ديني) معين وذي نكهة صارخة على الشعوب الحياة الإيرانية؟! أم أنّها تعبير جماهيري غاضب عن جملة مشاكل كبيرة تعيشها إيران، فليس سرا إن ملايين من الإيرانيين مصنفون تحت خط الفقر، وهناك أعداد هائلة من الإيرانيين يعانون من مستويات اقتصادية متدنية، كذلك هناك ظاهرة الفساد المالي ا لمخيف، أضف إلى ذلك ما يقاسيه الشباب الإيراني من بطالة ذات مديات واسعة، وهناك شكوى مرة من إرتفاع نسبة التضخم، وعدم استقرار الاسعار، والتوازن بين الدخل الفردي وضرورات الحياتية يكاد أن يكون معدوما لدى الكثير من الإيرانيين، يرى بعضهم ضرورة عدم الاستهانة بدور السياسة الخارجية الإيرانية هنا، فإن قيام هذه السياسة على مشاريع التدخل بقضايا هي خا رج أسوار إيران القومية وا لجغرافية أضر بسمعة إيران الدولية، وخلق لها أعداء من كل طرف، فهناك تململ في الشارع الإيراني من اهتمام إيران (الزائد عن اللزوم) بالقضية الفلسطينية، وانصرافها إلى تكتيل الآخرين ضد أمريكا والغرب بشكل عام، والشكوى تتأكد وتتركز على سياسة الحكومة الإيرانية تجاه دول الجوار، خاصة دول الخليج، فالخيج يجب أن يكون رئة إيران الأقتصادية، وهذا يستوجب سياسة تفاهم وليس عداء، وربما هناك كلام آيضا عن هذه الأموال الطائلة التي تصرف على المشروع الملف النووي، إذ يشير بعضهم إنّ هذا المشروع استهلك الميزانية الإيرانية فيما مدى نجاحه مرهون بشروط وأسباب ليست مضمونة أو سهلة التحقق، يشير آخرون إلى سياسة الحكومة الإيرانية تجاه القوميات غير الفارسية، فهي كما يقول هؤلاء تتميز بالتعصب والإنحياز، خا صة مع عرب الأهواز ، يُشار هنا إلى عسكرة المجتمع أيضا، أي تحكُّم (البسيج) العسكري بالحياة المدنية للناس، وانحصار القوة الحقيقية في البلد بيد هذه الطبقة العسكرية المتصلبة عقائديا وسياسيا وقوميا، يضاف إلى ما سبق تدخل الدولة في تقرير مصير التقليد الديني، وحصره بشخصيات الحكم، خاصة الولي الفقيه، مما أثار حفيظة الفقهاء الكبار، الذين يرون إن أي تدخل حكومي في رسم هذه السياسة تضر بالاسلام والمذهب بل تضر بالعلم الديني وتساهم في إضعاف هيبته الروحية و الفكرية.
إن الملفت للنظر هو الطابع (الشبابي) لهذه (الانتفاضة)، كذلك الطابع (المديني)، مما قد يغري بالتفسير القيمي لهذه (الانتضافضة)، أي هي محاولة من هذه الشرائح المدينية الشبابية للتعبير عن غضبها تجاه تحديد وتضييق مساحات الحرية الفردية، خاصة على مستوى التعبير عن الذات بالطريقة ا لتي تؤمن بها الذات، حيث يذكر في هذا الصدد الاعتداءات المتكررة على شرائح كبيرة ومهمة من طلاب الجامعات الإيرانية بسبب بعض نشاطاتهم الفكرية والفنية التي لا تتفق مع توجهات الحكومة بشكل عام، ولقد أشارت منصة خطبة الجمعة الرسمية أكثر من مرّّة إلى هذه النشاطات متهمة إياها بالفساد والعمالة والعداء للدين والقيم الإيراني الأصيلة.
إن ما يجري في إيران محير للغاية، ومن الصعب تحليل ما يجري بعمق ووضوح وبلحاظ نتائج حاسمة وجلية، لأن الأسباب كثيرة ومتداخلة، وتنافضات الموقف هي الأخرى كثيرة ومعقدة، فمن المفارقات حقا أن تقود عملة (الانتفاضة) هذه عناصر محسوبة على (المحافظين) أساسا، فإن السيد مير موسوي متشدد أديولجيا، وكان ذا نزعة (خمينية) حادّة الملمس، كذلك (كر وبي)، أيضا السيد رفسنجاني الذي هو رئيس مجمع تشخيص المصلحة والذي له دور رئيسي في أنتخاب ولي الفقيه !!
إن ما يجري في إيران حالة متشابكة الاسباب والظواهر والمقتربات والنتائج، وهي حالة ليست سهلة، وربما تفرز حقائق جديدة على الساحة الإيرانية تتسم بالفوضى وعدم الاتساق، وليس من شك سيكون لها أيضا انعكاساتها الكبيرة على المنطقة بل والعالم.
إن المنطقة تمر بمنعطف كبير وحاد، خاصة بعد بيان ملامح التمرد (الشبابي) الخفي والعلني بدرجة واخرى على صعيد الحريات الشخصية، وفي مقدمتها الحرية الجنسية والفكرية، فهل يساهم الحدث (الإيراني) هذا في تفعيل وتوتير هذا (التمرّد) الخفي والمعلن بدرجاته المتفاوتة بين الشدّة والضعف؟
إن النتيجة البارزة لهذ االحدث رغم كل ما يحيط به من غموض وا بهام، ورغم صعوبة تحليله بدقة وموضوعية ونجاح ... هذه النتيجة تقول بملء لغتها، إن المجتمع الإيراني (إنقسم)، وهذا الانقسام ليس وفق معادلة التوازي الحادة بين قطبين أو موجين أو فريقين أو تياريين، بل هو انقسام متعدد، يتسم بالفوضى والتشضي، وحتى لو قمعت الحالة، وسكتت الأصوات، وخفتت النداءات، ورجع المتظاهرون والمحتجون إلى بيوتهم ومدارسهم ومعاملهم، فإن الانقسام ترسخ وتأكد، وينتظر فرصته الآتية للتعبير عن نفسه بصوة أكثر جذرية وقوة وسراسة.