تساءلنا في المقال السابق عن طبيعة quot;الدولة اليهوديةquot;، التي يشترط زعماء إسرائيل الاعتراف بها، مقابل المضي في طريق السلام، والقبول بدولة فلسطينية مجاورة، تعيش في سلام وتعاون مع إسرائيل.. استعرضنا ثلاثة احتمالات ممكنة لمفهوم quot;الدولة اليهوديةquot;، أولها أن تكون دولة دينية، على غرار quot;الجمهورية الإسلامية في إيرانquot;، أو وفق أحد النماذج التي تحلم بها تيارات الإسلام السياسي، الذي يأسر عقول وقلوب جماهيرنا، التي نسيرها في تظاهرات لتندد بالعنصرية الإسرائيلية.. والاحتمال الثالث أن يكون المقصود دولة علمانية، بنفس الوضعية التي عليها إسرائيل حالياً، لكن بعد أن يتم إخلاؤها من غيراليهود، وبينا في تحليلنا أن كلاً من الاحتمالين، سيؤدي إلى حالة إنسانية وسياسية، أسوأ من الوضع الحالي، والذي نسعى ويسعى العالم كله إلى تجاوزه.. الاحتمال الثاني كان افتراض أن المقصود quot;بدولة يهوديةquot; هو مجرد الحفاظ على التركيبة السكانية الحالية لإسرائيل، والتي يحتل فيها العرب غير اليهود حوالي 20% من السكان، ويصل إلى برلمانها الديموقراطي بحق نواب عرب، يعلنون من التصريحات والمواقف، ما كان كفيلاً لو أدلوا بمثله في أي برلمان عربي، أن يوضعوا في فوهة أحد المدافع، على حد تعبير إسرائيلي ضاق بالتبجح والادعاء.. وكان الجدل جارياً في تسعينات القرن الماضي داخل إسرائيل، عن أوجه التفرقة بين اليهود وعرب 48، سعياً لتحقيق المساواة الكاملة بين أبناء الوطن الواحد، خاصة في التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية والتعليم، وكان نشطاء إسرائيليون على رأس من يتصدى للقضية، بجانب النشطاء العرب، لتحقيق العدالة الشاملة في المجتمع الإسرائيلي، حتى جاءت ما سميناها بالانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وخلبت شعاراتها وآمالها لب الكثيرين من عرب إسرائيل، فتحركوا بمشاعرهم ونشاطهم السياسي، في اتجاه مفارق لبطاقات الهوية التي يحملونها في جيوبهم، وكان ما كان من أحداث مؤسفة، راح ضحية بعضها 13 عربياً إسرائيلياً في أكتوبر عام 2000، لكن الشرخ بل والتصدع في موقف العرب كان أخطر تأثيراً على واقعهم ومستقبلهم، فقد شككت هذه الأحداث والمواقف، في ولاء هؤلاء لوطنهم ودولتهم، سعياً للانتماء إلى الانتفاضة المباركة، بالطبع بالتوازي مع بروز نزعة عنصرية لدى الشرطة والحكومة الإسرائيلية تجاه العرب، ما استدعى تحقيقات مطولة وممتدة في قضية الضحايا، لكن الشرخ في المجتمع الإسرائيلي، الناتج عن توجهات العرب تلك، مازال يتفاقم من يومها وحتى الآن. . وقد قدم quot;عزمي بشارةquot; العضو العربي بالكنيست على سبيل المثال، نموذجاً سيئاً لأداء العربي الإسرائيلي وموقفه من المواطنة، ما وصل به إلى اتهامه بالخيانة والعمل لحساب حزب الله، وهروبه ليعيش متنقلاً بين دول البترول والممانعة، بصفته بطلاً عروبياً، رغم أن سلوكه أوقع أكبر الضرر بشعبه، وبأساس أرضية السلام والتعايش المأمول التوصل إليه بالمنطقة، فبدلا من أن يلعب الدور المنوط بأمثاله، فيكون حلقة وصل بين اليهود والعرب، تثبت للعالم أجمع إمكانية التعايش بين الجانبين، ما يبطل دعاوى إقامة وطن خاص لليهود، يقيهم شرور المتربصين بهم من كل صوب، انضم صاحبنا إلى صفوف المولعين بالخطاب التحريضي العدائي، فعُد في عداد المغازلين للغوغاء، والمرتزقين ممن يمولون ويحركون التيارات التي تتخذ من القضية الفلسطنية لعبة تعبث بها، وتعيث في العالم فساداً!!
انتهينا في المقال السابق إلى سؤال: لو كان كل المقصود باصطلاح quot;دولة يهوديةquot;، هو إقامة وطن قومي لليهود، لا ينتقص بل يحسن ويطور أوضاع من نلقبهم بعرب 48، في مجتمع يقوم على أسس علمانية، تساوي بين جميع البشر في الحقوق والواجبات، المستمدة من قاعدة المواطنة، ومن حقوق الإنسان الطبيعية، فهل يصح في هذه الحالة أن نصنف هذه الدولة quot;كدولة عنصريةquot;؟
أم أن العكس هو الصحيح، بحيث أن معاداتنا لمثل تلك الدولة، هي العنصرية التي تسري في دمانا نحن؟!
يلزمنا هنا أن نحدد ما هو المقصود بكلمة quot;كيان عنصريquot;، حتى لا تختلط علينا مع اصطلاح آخر مشابه، هو quot;كيان قوميquot; أو quot;كيان دينيquot;، فالاصطلاحان الأخيران يعبران في القاموس السياسي، عن كيان أو تنظيم يقوم أو يسعى لحماية وتحقيق مصالح عنصر ما، قد يكون عنصراً قومياً أو دينياً، فالتنظيمات النسائية تسعى للدفاع عن عنصر محدد من البشر، هو عنصر النساء، كذا منظمات الدفاع عن الطفولة، وعن حقوق السود في هذا البلد أو ذاك، كذلك الأقليات في جميع دول العالم، تنشئ منظمات تدافع عن مصالحها، وتتبنى قضاياها. . بل إننا نستطيع أن ندرج النقابات المهنية والعمالية، ضمن المنظمات التي يتبنى كل منها، قضايا عنصر واحد محدد من المجتمع، ومن الواضح أن أغلب حركات التحرر العالمي، كانت تتحدث باسم عنصر محدد، مثل الأكراد أو الأمازيغ أو الفور والشيشان والبوسنيين، وأيضاً اليهود الذين لا يمكن أن يكونوا استثناء، بين الأقليات. التي تعرضت لتعسف الأغلبيات المتعصبة والتيارات النازية.

متى إذن يمكن لنا أن نصم كياناً ما quot;بالعنصريةquot; بمعناها البغيض؟
الكيان العنصري المرفوض لابد وأن يكون ذلك quot;الكيان الذي تتأسس رؤيته النظرية، وممارساته العملية، لصالح الجماعة المنضوية فيه، على العداء إلى كل أو بعض العناصر الأخرى خارج هذا الكيان.quot;. . فسعي أي مجموعة لتحقيق مصالحها، لا يمكن أن يكون جريمة، تستدعي الإدانة والوصم، لكن إذا كانت هذه المجموعة في تنظيراتها الأيديولوجية تركز على احتقار وكراهية الآخر، أو تمارس اضطهاده ومعاداته عملياً، فإنها هنا تضع نفسها في تصنيف quot;الكيان العنصريquot; بمعناه البغيض.
على هذا علينا إن كنا مهتمين حقاً بالحاضر والمستقبل، أن نكف عن التعلق بالمفاهيم المعلبة، التي قررنا أن نحشر الآخر في أسوأها، واصمين إياه بالعنصرية، ونختار لأنفسنا ما يتيح لنا رؤية الذات عبر مرآة مخادعة، تصورنا كملائكة أطهار ومظلومين ومسلوبي الحقوق والديار. . فحتى على افتراض أن وضعيتنا هذه كانت صحيحة يوماً من أيام الماضي، فإن لأنفسنا وللحاضر حقاً علينا، أن نتدبر ما هو معروض علينا الآن، سواء من الإسرائيليين أم من العالم.. نتأكد مثلاً من طبيعة تلك quot;الدولة اليهوديةquot; المطلوبة، فإن لم تتوفر في أسسها، وفي الواقع الذي يترتب عليها الأرض، أي ممارسات وتوجهات تنتقص من قيمة الإنسان العربي أو غير العربي الساكن فيها أياً كانت ديانته، أو من كرامته وحقوقه الطبيعية، فإن علينا في هذه الحالة أن نرفع القبعات (أو العمائم)، تحية لهذه الدولة وترحيباً بها. . ولنأمل أيضاً أن تنتقل العدوى الديموقراطية والحداثية من تلك الدولة المزعومة (سابقاً)، إلى دولنا العتيدة العريقة في الطغيان.
ربما هناك من مدعي الحضارة والحداثة، من يصعب عليه تجاوز ما يعتبره ماضياً عنصرياً للصهيونية والصهاينة، ويتخذ من هذا ذريعة، للمزيد من الولوغ في العنصرية والفاشية، سواء الأيديولوجية أو الدينية، ولهذا البعض نصيحة بسيطة، وإن كانت عسيرة القبول، أن يعيد قراءة التاريخ قراءة نقدية، بعيداً عن القوالب الجامدة والزائفة، التي حشرنا فيها الآخر، وحشرنا أنفسنا مقابلها. . وعلى سبيل فتح الشهية (لا أكثر) لقراءة التاريخ، نهدي هذا البعض بضع سطور في مقال تال، لنرى إن كان اليهود بالفعل شياطين العنصرية، في مقابل ملائكة حقوق الإنسان العربية، أن أن حقيقة الأمر تختلف عن هذا كثيراً أو قليلاً؟

[email protected]