-1-
كانت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، مرشحة لأن تكون مصدر ومستودع الحداثة العربية، بفضل ما قام به محمد على باشا من إصلاحات دينية وتعليمية جوهرية، وقطع دابر للمماليك العبيد، الذين اشتركوا مع العثمانيين طيلة قرابة ستة قرون في إظلام العالم العربي، وعزله عن العالم ومنجزاته الحضارية المختلفة.
وكانت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، مرشحة لأن تقيم الليبرالية العربية بفضل مثقفيها، الذين نهلوا من ثقافة وفكر الأنوار الأوروبية، وعادوا إلى مصر يبشرون بالليبرالية والحداثة وضرورة النقد الذاتي. فبرز طه حسين، وعبد العزيز فهمي، ومحمد حسين هيكل، وأستاذهم لطفي السيد. ودعم موقفهم المثقفون الشوام الذين هربوا من سطوة الحكم العثماني وبطش الاستعمار الفرنسي، كعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميّل وأولاد تقلا وفرح أنطون ويعقوب صروف وفارس نمر وغيرهم.
ولكن جاء انقلاب العسكر في 1952، فانقلب حال مصر بمصادرة الحريات، وخنق التعددية، وتراجع الديمقراطية، والبطش والتنكيل بالمثقفين وقادة الرأي العام من اليمين واليسار والوسط.

-2-
على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، كانت هناك تونس الخضراء، تأخذ مساراً مختلفاً عما اتخذته مصر بعد 1952. ففي الوقت الذي قامت مصر بعد 1952 بقمع الحريات، ومصادرة أفكار التنوير، قامت تونس في 1956 وما بعدها بإنارة قناديل الحداثة، التي بدأت منذ القرن التاسع عشر مع عبد العزيز الثعالبي والطاهر حداد، واستمرت مع الطاهر بن عاشور، وابنه محمد الفاضل بن عاشور. ثم كانت الثورة الحداثية الكبرى التي قام بها الزعيم المرموق بورقيبة 1956 عشية الاستقلال، لتحرير العقل العربي التونسي من جهالة الجهلاء، وظلام القرون الوسطى، التي امتدت من القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر.
ونحن هنا لا نريد أن نُعدد ونُكرر ما فعله الزعيم النادر الثمين بورقيبة في تونس، وهو أكبر أثراً بكثير مما فعله كمال أتاتورك في تركيا عام 1924. فإذا كان أتاتورك قد سعى إلى بناء الحداثة التركية من خارج الإسلام، ومن المنبع الفرنسي خاصة، فبورقيبة بنى الحداثة التونسية من داخل الإسلام، بأن قام بثورة الإصلاح التعليمي الديني، وأعطى المرأة من الحقوق والمكتسبات والمساواة مع الرجل، أكثر مما أعطتها الديانات السماوية الثلاث مجتمعة، ولم يعارض هذه الأديان! وهذا العطاء أنبت في تونس في النصف الثاني من القرن العشرين والسنوات الماضية من القرن الحادي والعشرين، أبرز مفكري الحداثة والتنوير في العالم العربي بعد جيل الطاهر حداد والطاهر بن عاشور. فبرز لنا هشام جعيط، وبرز لنا فتحي بن سلامة، وأخته رجاء بن سلامة، والعفيف الأخضر، والراحل المفكر محمد الشرفي، والمفكر عبد المجيد الشرفي، الذي يساهم الآن مساهمة علمية وميدانية في استكمال البناء الحداثي العربي التونسي، الذي يجب أن نلتفت إليه، ونعتني به، وندرسه دراسة متابعة عميقة، حتى نستفيد من كل ايجابياته في أنحاء مختلفة من الوطن العربي.

-3-
عبد المجيد الشرفي يقوم الآن في تونس، بقيادة مسيرة حضارية وثقافية شجاعة ورائدة.
وأنا هنا لا أريد ولا أستطيع استعراض كل ما يقوم به عبد المجيد الشرفي، وكل ما يفكر فيه ويكتبه. فهذا يحتاج إلى وقت طويل ومجلدات ضخمة. ولكن نظرة سريعة عما يفعله هذا المفكر الثمين، استكمالاً لمسيرة الحداثة العربية التونسية، التي بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر وإلى اليوم بفضل القيادة السياسية البورقيبة، التي تثبت أن السلطان قادر على الثورة الايجابية أكثر من قدرة القرآن، كما قال عثمان بن عفان: quot;إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآنquot;.
فعبد المجيد الشرفي، يشرف الآن على دراسات مهمة جداً تحت عنوان: quot;الإسلام واحداً ومتعدداًquot;. وصدر منها حتى الآن عدة كتب بدعم من quot;رابطة العقلانيين العربquot; في باريس وبعض الناشرين منها: quot;إسلام الفقهاءquot;، وquot;إسلام عصور الانحطاطquot;، وquot;الإسلام الأسودquot;، وquot;الإسلام العربيquot;، وquot;إسلام المتصوفةquot;، وquot;إسلام المتكلمينquot;، وquot;إسلام الفلاسفةquot;، وغيرها. وهي سلسلة ثمينة فكرياً وعلمياً وبإشراف أستاذ قدير كعبد المجيد الشرفي، العضو المؤسس لـ quot;رابطة العقلانيين العربquot; التي تضم كوكبة من المثقفين الليبراليين والحداثيين العرب كمحمد عبد المطلب الهوني، ورجاء بن سلامة وجورج طرابيشي، وعزيز العظمة، وجلال صادق العظم، ونصر حامد أبو زيد، وتنشر الآن موقعاً فكرياً مهماً quot;الأوانquot; الآن على الانترنت، يتناول كل ما هو حداثي ومسكوت عنه.
وعبد المجيد الشرفي، عميد كلية الآداب بتونس، متخصص في الحضارة العربية الإسلامية وفي المقارنة بين الأديان. وهو القائم بزمام المبادرات الثقافية الحداثية من خلال مؤلفاته ككتاب quot;الإسلام بين الرسالة والتاريخquot;، و quot;الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن العاشر الميلاديquot;.
وكالعادة يا سعادة، لا تخلو تونس كبلد عربي من الرماة الأشاوس الذين يرمون الحداثيين بالعمالة للاستعمار الأمريكي الجديد، كما رمى محمد الطالبي في كتابه quot;ليطمئن قلبيquot; عبد المجيد الشرفي. وتلك هي حجة العاجز عن مقارعة الفكر بالفكر والحجة بالحجة. فعبد المجيد الشرفي ndash; كما يقول خالد غزال - يحتل موقعاً مهمّاً في ميدان التصدّي للفكر الأصوليّ ومقارعته، عبر الغوص في النصوص الدينية وإجراء عملية تفكيك واسعة لها، بما يعيد الاعتبار إلى الجوهريّ في الدين. وفي الآن نفسه يحتلّ موقعه ضمن الحركات الأصولية بوصفه واحداً من ألدّ خصومها، بحيث أسبغ رجالها عليه من تهم التكفير والإلحاد والهرطقة بما يكفي لإهدار دمه وتشريع قتله.

-4-
دعونا نقرأ تونس، نسمع من تونس، نعي ما يدور في تونس، نتلمس مسيرة الحداثة، ونتعرف على كيفية الإصلاح الديني من داخل الإسلام وليس من خارجه. فالإصلاح الديني من داخل الإسلام أقوى وأسرع ولكنه أكثر مشقة من الإصلاح الديني من خارج الإسلام.
نريد أن ندرس الفكر العربي في تونس دراسة دقيقة. فهذا البلد الصغير بمساحته وعدد سكانه، كبير جداً بأثره ومثقفيه، وبالثورة الثقافية التي يقودها الآن.
لا نريد أن نُضيّع هذه الفرصة الذهبية لتوليد الحداثة العربية من الحداثة الأم التونسية، كما سبق وأضعنا الفرصة السياسية الذهبية النادرة في 1965 حين قال بورقيبة للفلسطينيين في أريحا: quot;خذوا وطالبواquot;، فرشقوه بالطماطم والبيض الفاسد والحجارة. وقال عنه quot;صوت العربquot; آنذاك: quot;المتصهين الخائنquot;. وأبينا إلا أن نأخذه كله، وإلا فلا. ولم نتذكر، أن quot;من طلبه كله فاته كلهquot;، وهو ما انتهت إليه القضية الفلسطينية رغم بشارة القديس أوباما بقيام دولة فلسطينية، ولكنها ستكون عرجاء، عمياء، صماء، بكماء.

السلام عليكم.