لا تحيا الفلسفة داخل الكتابة الفلسفية فقط، وإنما هي تتأصّل في الكتابة الشّعرية والأدبية والفنية وغيرها... فقد تجد أعمق القضايا والإشكاليات الفلسفية مصاغة بشكل أوضح وأبسط في بيتين من الشعر أو في حكاية سَرْدِيَّة صغيرة، وكما قال quot;ميشيل سيرquot;: (فإن الفلسفة عميقة جدّاً إلى درجة أنها تُدْرِكُ أنّ الأدب أعمق منها).
فقد لاحظ quot;ميلان كونديراquot; أن ميلاد الحداثة الغربية كان علي أيدي أثنين: quot;رينيه ديكارتquot; وquot;سرفانتسquot;. وفي اللحظة التي تناست فيها الفلسفة والعلوم الوجود البشري، لم يكن للرواية من هدف آخر سوى اكتشاف هذا الوجود المنسي والمكبوت، إذ اتاحت الرواية تعدد الأصوات والحوار وطرح الاسئلة، من خلال مواقف حية وشخوص من دم ولحم.
أما quot; نيتشه quot; فقد أجهز بمعوله علي quot;ديكارتquot; تماما، كما لاحظ quot;كونديراquot; أيضا، إذ زرع الشك في عبارة ديكارت الخالدة (أنا أفكر)! وحجته ان: quot;الفكرة ndash; أي فكرة ndash; لا تأتي عندما نريد نحن، وإنما عندما تريد هيquot;، فهي حالة من quot;الإلهامquot; أو quot;الوحيquot; وquot;الإبداعquot;، لذلك فمن الزيف أن ندعي أن الفاعل quot;أناquot; ضروري للفعل quot; فكرquot;.
كل هذه الخواطر دارت بعقلي حين تأملت الذكري الأولي لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويشquot; (13 مارس 1941 - 9 أغسطس 2008)، الذي كان له الفضل الأول في تفتحي الباكر علي quot; ما بعد الحداثة في الفلسفة quot;، وأفكار مثل quot;الحضور الغيابquot; وquot;الأثرquot; وquot;الاختلافquot; وquot;الطيفquot; وquot;الكتابة البدئيةquot; وغيرها، قبل أن أقرأ نيتشه وهيدجر ودريدا وليفيناس ودولوز ولاكان.
كلما ألتقيته في القاهرة، كان يردد هذه الشذرة النادرة أمامي: quot;الوطن ليس دوما في الوطن، والمنفي ليس دائما في المنفي quot;. وهي عبارة تستدعي إلي الذهن ما قاله الأديب الأيرلندي الشهير quot;جيمس جويسquot;، الذي سئل إبان غربته في القارة الأوروبية إن كان يتوق إلي العودة إلي quot;دبلنquot; التي يهواها، فقال: ومتي تركتها ؟. وهي تلامس أيضا ما ذهب إليه أحد الرهبان في القرن الثاني عشر الميلادي الذي قال: quot;الإنسان الذي يجد وطنه أثيرا، لم يزل غرا، طري العود، أما الذي يري موطنه في كل مكان فقد بلغ القوةquot;.
تذكرت محمود درويش وسقطت مني دمعة، وأنا أقرأ رواية للأديبة العراقية المتميزة quot;فاطمة البتولquot;، فقد سافرت إلي أوروبا منذ طفولتها، وظلت تحلم بالعودة مرة أخري إلي بلدها ومسقط رأسها، وحين عادت والحنين يملؤها، قبل سنوات، اكتشفت أنها غريبة في مكان غريب، وأن القصص التي حكيت لها عن العراق لم تكن سوي أساطير، فرجعت من حيث أتت، والحسرة تعتصرها، وكتبت هذه العبارة الصادمة: quot; لم نعد ننتمي إلا لظل أجسادنا quot;.
أول قصة عن آلام المنفى موجودة في التراث الفرعوني وتحكي عن تعاسة الغربة وفرحة الرجوع إلى الوطن. وفي الأدب الإغريقي نجد البطل أوديب معاقبًا بالنفي عن مدينته ومملكته، محكومًا بالتنقل في التيه. فاللفظة اليونانية الدالة على quot;الوطنquot; هي Patris، أو quot;أرض الآباء quot;، وتقع في الكتاب الخامس من quot;الإلياذة quot;، ووردت أساسا للتعبير عن عذاب النفي، حيث يقول quot; بناداروس لاينياس quot;: quot; عندما أعود إلى بلدي ثانية القي بصري على أرض مولدي وزوجتي وبيتي المرتفعhellip;quot;. وفي الأديان الإبراهيمية تجد تيمة quot; الخروج quot; هي أول ما يصادفك في العهد القديم بعد quot; التكوين quot;، وفي العهد الجديد أيضا حيث لم يكن للسيد مكانا ليسند رأسه فيه، ناهيك عن quot; الهجرة quot; في القرآن .
ذكري quot;محمود درويشquot; تستحضر بقوة مفهوم quot;الحضور الغياب quot;كما طرحه quot;هيدجرquot; و quot;ليفيناسquot; و quot;دريداquot;، وبكلمة واحدة فإن الإنسان والكلمات والأشياء، تحضر حين تغيب، وتغيب في حضورها. الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من مقولته عن (الوطن المنفي، المنفي الوطن)، هو التأكيد علي quot;الهوية المفتوحةquot;: التي هي انخراط في الكوني انخراطا يكفل الخصوصية الإنسانية للهوية.

[email protected]