الحلقة الأولى

من مفكرة سفير عربي في اليابان

يحتاج مشروع السلام في الشرق الأوسط لحكومة إسرائيلية متزنة، تستطيع التعاون بصدق مع العرب لتنفيذ اتفاقيات السلام المجمدة. ويبدو بأن الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي مصران على تحقيق سلام دائم وشامل، وإذا لم ينجح الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي في التوصل لحل مقبول، سيفرض الغرب عليهم بالقوة قرار التقسيم لعام 1947 بالتعاون مع الأمم المتحدة، والذي يقر حدود الدولة الفلسطينية ويعالج مشكلة القدس واللاجئين والأمن. وقد برزت في الفترة الأخيرة في الصحافة العربية والغربية مقالات تطالب الإعلاميين العرب بمخاطبة الشعب الإسرائيلي مباشرة، كما طالب الصحفي الإسرائيلي برادلي برستون الرئيس أوباما في رسالته التي نشرتها صحيفة هاارتز، في السابع والعشرين من يوليو الماضي، بأن ينقل حملته الجادة للسلام مباشرة وبسرعة للشعب الإسرائيلي. كما أنتقد الإسرائيليين بأنهم، مثل أبناء عمومتهم الفلسطينيين، متمكنين في مقاومة التغير، بدل التفرغ لتطوير مجتمعاتهم. وأكد بأن التحدث عن الإسرائيليين، بدل التحدث معهم، quot;سيكرر الجراح التي سببها الرئيس بوش الابن، حينما تكلم عن العرب والمسلمين بسلبية مخجلة، وأساء لهم بطلباته الفوقية، بدل أن يخاطبهم بصراحة صادقة.quot; وأصر على ضرورة مخاطبة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي مباشرة بدل مخاطبة قياداتهم، وبأن يناقشهم بصراحة وصدق، وأن يكلمهم وجها لوجه، والاهم quot;بمستوى العين كبشر.quot; وكما أثبت أوباما بإمكانياته الخارقة في القيام بحملة انتخابية ناجحة، يمكنه أن يقوم بحملة أخرى في الشرق الأوسط ليتحدث للشعبين، الفلسطيني والإسرائيلي، ويرسل لهم رسالة أمل حقيقية.
والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيلعب العرب والإسرائيليون دورا إيجابيا في المرحلة القادمة في عملية السلام، ويستفيدوا من تجارب الفرص الضائعة؟ وهل سيتحدث إعلام كل طرف مع شعب الطرف الآخر؟ وهل سيلعب عرب إسرائيل دورهم كجسر تفاهم وتعاون بين الإسرائيليين والعرب، ليغيروا توازن القوى ضد المتشددين الإسرائيليين الواهمين بإسرائيل الكبرى، ومع القوى الإسرائيلية المعتدلة، التي سئمت الحروب المدمرة، وتأمل العيش بسلام في دولة طبيعية، تحترم مؤسسات الأمم المتحدة، وقوانين حقوق الإنسان، وتضمن للشعب الفلسطيني دولته المستقلة وحقوقه الوطنية؟ وهل سيستفيد العرب من تجربة لوبي الحكومة الإسرائيلية في الولايات المتحدة للتعاون مع هذه القوى المعتدلة للدفع لاختيار كنيست متزن وحكومة إسرائيلية براغماتية فاعلة؟
سيحتاج السلام في الشرق الأوسط لجهود مضنية جادة من الغرب، ولتمويل إعلامي من حكومات المنطقة، ولمراحل زمنية مدروسة من مفكريها، ولجيوش من الإعلاميين والحقوقيين، وللوبي مؤثر يحرك السياسة والثقافة والتعليم في المنطقة نحو بيئة سلام حقيقة شاملة. وقد يحتاج العرب وشعب إسرائيل للاستفادة من التجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، التي تناسى فيها الشعب الياباني ماسي الحرب وأحقادها، وتعاون مع عدوه الأمريكي بتناغم جميل، ليستفيد من إمكانياته وأبحاثه وتكنولوجيته لبناء مؤسساته بلاده من جديد وخلال عقود قليلة، لتصبح ثاني اقتصاد عالمي. وقد بدأت دعوات جادة في الإعلام العربي والغربي بضرورة التوجه المباشر للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي للدفع لسلام دائم، وقد تحتاج هذه الدعوات لبلورة عملية السلام بدراسة التجربة الناجحة للوبي الحكومة الإسرائيلية في واشنطن، الذي حاول الاستفادة من إمكانيات اليهود الأمريكيين ومن جميع هفوات الدبلوماسية العربية، لكي يؤثر على وجهة النظر الشعب الأمريكي، وعلى قرارات الكونجرس والحكومة الأمريكية، من خلال الدعم الفكري والإعلامي والمالي للسياسيين المخلصين لقضاياه. فهل سيستفيد فريق السلام العربي من أخطاء سياسات الحكومات الإسرائيلية في غزة ولبنان، للدفع بعملية سلام في المنطقة؟ وهل سيطالب بتوجيه جزء من أموال النفط لتنشيط لوبي سلام عربي إسرائيلي، للوقاية من ضياع الأموال والأرواح على حروب فاشلة مدمرة؟
يبدو بأن هناك فرصة حقيقية للسلام بعد أن حس الغرب بخطر التطرف الإسرائيلي على استقراره وأمنه واقتصاده، وحان الوقت لعمل مشترك بين الفريق العربي والإسرائيلي المؤمن بالسلام لتطوير لوبي يدفع لعملية سلام حقيقة، ومن خلال عمل مرحلي، وعلى مختلف المستويات السياسية والثقافية والتعليمية. وسيحتاج ذلك لعمل إعلامي مدروس، للوصول لعقول وعواطف المواطنين الإسرائيليين والفلسطينيين، للعمل على دفع نواب معتدلين للكنيست الإسرائيلي، وذلك باستفادة عرب إسرائيل من تجربة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. وقد لا تكون تلك مهمة صعبة جدا في بلد لا يتعدى شعبه السبعة ملايين وخمس سكانه من العرب الفلسطينيين، ويعيش بين ثلاثة مائة مليون عربي ومليار وربع مسلم. وطبعا لن يكون من السهل تحقيق هذه التصورات بعد سنوات من الصراعات الدامية بين العرب والإسرائيليين. فقد بينت الأبحاث العلمية بأن المعاناة الإنسانية في صراعات العنف المزمنة تختفي في مراكز اللاوعي في العقل البشري، لتؤثر على تركيبة الجسم ووظائفه ومورثاته، وتسبب أعراض عاطفية من القلق والغيرة والحقد، وتأثيرات ذهنية من عقد النقص وفقدان الثقة. وقد يؤدي كل ذلك لاضطراب التوازن الروحي، وخلق شخصية تعاني نفسيتها المصدومة من انفعالات الغضب وثوراته، وتتعامل عقلها المجروح مع تحديات مجتمعها بتطرف وعنف، بعيدا عن التعاون والتناغم. وقد درس علماء النفس والاجتماع مختلف هذه التأثيرات النفسية والجروح العقلية، لاكتشاف أفضل الصيغ العلمية للتعامل معها في مرحلة ما بعد الصراعات والحروب. وقد اكتشفت الشعوب الأوروبية، بعد معانات حروبها المدمرة، بأن السلام والديمقراطية هم خير وسيلة لخلق مجتمعات متناغمة ومزدهرة. وقد زادت الحاجة لهذه المجتمعات اليوم في قريتنا الكونية الصغيرة، بعد أن ضعف دور جيوش الحكومات التقليدية، وقوت مقاومة الفئات المتطرفة الصغيرة والمتناثرة. ليؤدي ذلك لضعف دور الضغوط الحكومية الاقتصادية والعسكرية في التعامل مع التحديات الدولية، وليزداد الاهتمام بسبل الوقاية من الصراعات الأهلية والدولية، والتوجه لمعالجتها بطرق سلمية عادلة.
لقد أكدت الأزمة الاقتصادية الحالية مدى تشابك مصالح دول العالم، وتكلفة الخلافات والحروب لاقتصادياته، والحاجة للعمل المشترك لمعالجة تحديات العولمة المختلفة. كما وعت هذه الدول لأهمية التعليم والقوة الناعمة، قوة الثقافة والحضارة، التي تقرب بين الشعوب بقيمها الإنسانية، وتشجع التعاون لتحقيق المصالح المشتركة. وقد بدأت دول الشرق الأوسط تدرك عدم إمكانية حل خلافاتها بالياتها العسكرية، بل عليها الاستفادة من الثقافة والتعليم لأعداد شعوبها نفسيا وروحيا وذهنيا لتحديات مرحلة ما قبل السلام، وقد تستفيد من التجربة اليابانية التي اعتنقت السلم عقيدة للتعامل مع تحدياتها الوطنية والدولية، بعد معاناتها من ماسي الحروب ودمارها النووي، فعملت مع أعدائها بتناغم عجيب لتبني بلادها وشعبها من جديد. وستلعب الأبعاد الثقافية لعمل لوبي السلام العربي دورا هاما في تأهيل المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي. وقد أكد أهمية الأبعاد الثقافية البروفيسور كوزو أوجارا بصحيفة اليابان تايمز الصادرة في الحادي عشر من أبريل الماضي، بقوله: quot;لكي تنجح مبادرات السلام، هناك حاجة لآلية تستطيع فيه أطراف الخلاف تعميق فهم بعضها البعض، لتصحح سوء الفهم والإدراك بينها. وتعتمد هذه الآلية على إصلاح البنية القانونية والمؤسساتية، بالإضافة لتطوير التعليم بأبعاده الثقافية والنفسية، لكي يلعب دورا في علاج العقول المجروحة من صدمات الصراعات المزمنة.quot; وقد أكد البروفيسور أوجارا ضرورة العمل على ثلاث مراحل، تحتاج المرحلة الأولى منها لجهود جادة، للوقاية من سوء الإدراك والفهم بين الأطراف المتنازعة، وذلك بالتعاون خارج بيئة الصراع. فمن المعروف بأن تؤدي الصراعات بين الأمم لزيادة حدة الإجحاف وسوء الفهم بين شعوبها، ويساعد التبادل الثقافي، خارج بيئة العنف والصراع، على تلطيف الأجواء لتغير ذلك. وقد قامت مؤسسة اليابان فاونديشين الثقافية، بدعوة طلاب فلسطينيين وإسرائيليين لزيارة مدينة هوريشيما، والمشاركة معا في نشاطات رياضية وثقافية، لعبت دورا في خلق علاقة رباط إنساني فلسطيني إسرائيلي. وقد أدرك الطلبة خلال هذه الرحلة، كيف تم التئام ذكرى المعاناة المدمرة لإلقاء القنبلة النووية على مدينة هوروشيما، لكي يستطيع الشعبين الأمريكي والياباني العمل بشراكة متناغمة منتجة لتحقيق التنمية والازدهار. وقد ساعدت هذه الرحلة لتفهم الطلبة شخصيات بعضهم البعض من زوايا جديدة وبمنظار مستقبلي متزن، بعيد عن التحيز والانفعال. وتتميز المرحلة الثانية بالعمل داخل بيئة الصراع وبتواجد طرف ثالث محايد، وبالاستفادة من الفنون المسرحية والسينمائية في تصوير المعاناة الإنسانية لطرفي النزاع. وتستخدم في المرحلة الثالثة قوة الثقافة كآلية للالتئام الجراح العقلية وتهدئة الانفعالات النفسية، ولإرجاع الفخر والثقة للموطنين بحضارة وثقافة بلدانهم. ليؤكد كل ذلك أهمية الثقافة في بناء مستقبل السلام، كآلية لتعريف هوية الأمة لمواطنيها من جديد، بعد أن حطمت صورتها الصراعات المزمنة.
كما يحتاج اللوبي العربي للمساعدة بالدفع بتغيرات أساسية في التعليم في مرحلة ما قبل السلام، لتغير الصراع الداخلي الذهني والنفسي والروحي بين أطراف الصراع المختلفة. وقد ناقش ذلك الكاتب الإسرائيلي جرجيشون باسكن بصحيفة الجورسليم بوست، الصادرة في السابع والعشرين من شهر أبريل الماضي، بقوله: quot;مع بدأ عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط تنتقل المنطقة من حالة الحرب بين الأعداء، إلى مرحلة السلام بين الشركاء. ولكي تنجح مبادرات السلام سنحتاج لتغير جذري في المفاهيم والمواقف في مختلف قطاعات المجتمع، بالاستفادة من نظام التعليم كأداة للتغير في المنطقة.quot; ويقترح باسكن بأن تبدأ هذه المرحلة بجمع المدرسيين والطلبة الفلسطينيين والإسرائيليين لعملية حوار، يستخدم المدرسون فيها مهاراتهم لتشجيع الحوار في الفصول الدراسية. كما يطالب بأن تعكس الكتب والمناهج الدراسية، التي ستقررها الدولة، قيم السلام الرسمية الذي يرغب المجتمع نشرها بين مواطنيه. فبالإضافة للمسئولية الرئيسية لوزارات التعليم في توفير مستوى عالمي من التعليم الأكاديمي، سيواجه قيادات التعليم العربية والإسرائيلية مسئولية تطوير تعليم مرتبط بقوة القيم المعتمدة على بناء مجتمعاتهم ودولهم المستقبلية لسلام شامل ودائم، والتي تعتمد على بناء مواطنة بأوجه متعددة في عالم العولمة الجديد، والتي هي مسئولية معقدة وصعبة بعد عقود من الصراعات العنيفة. وسيساعد التعليم على فهم تقارب الثقافات في المنطقة، ويفتح الأبواب لاكتشافات جديدة، وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;وقد يبدو السلام حلم، ولكن هناك حاجة لاختراق عميق للمجتمعيين لكي تتأصل جذور السلام في النفوس والعقول وحتى لو لم يتحقق السلام المنشود.quot; والسؤال المحير: هل سينجح العرب في تحقيق هذا الحلم، حلم لوبي عربي فاعل في إسرائيل؟
سفير مملكة البحرين في اليابان