-1-
ظل الإعلام المصري إلى فترة قريبة، المهيمن على العقل السياسي العربي. ولكن مع نشوء الفضائيات والصحافة المهاجرة إلى بريطانيا بشكل خاص، تخلّص العقل العربي السياسي من هيمنة الإعلام السياسي المصري الذي ظل يحكم العقل العربي ويخضعه لمنطقه وتحليلاته ورؤاه، منذ حرب السويس،1956 وإلى ما قبل حرب الخليج الثانية 1991.

-2-
ولكن لماذا كان للإعلام السياسي المصري هذا الدور المهيمن على العقل السياسي العربي؟
أن لذلك أسباباً كثيرة منها:
1- أن العرب تعلموا جزءاً كبيراً من السياسة من المصريين الذي أخذوا يبرزون بشكل واضح كسياسيين محترفين ومناضلين سياسيين منذ العام 1882 عند بدء الاحتلال البريطاني لمصر بعد فشل ثورة عُرابي.
2- أن أبطال الاستقلال المصري كمصطفى كامل، وسعد زغلول، ومحمد فريد، وغيرهم، كانوا علامة مهمة في النضال السياسي والفكر السياسي العربي.
3- أن نشوء جماعة الإخوان المسلمين في مصر في العام 1928 كان له أثره الكبير على ظهور الإسلام السياسي، وانتشاره في العالم العربي.
4- أن قيام الثورة المصرية 1952 وظهور شخصية عبد الناصر، واندلاع حرب السويس، وقيام الوحدة المصرية ndash; السورية، قد أدى إلى أن تقود مصر العمل السياسي العربي، وأن يصبح العقل السياسي المصري هو الموجه والمرشد للعقل السياسي العربي.
5- سيطرة السياسيين المصريين على ترؤس الجامعة العربية وعدة هيئات عربية وإسلامية ساهم مساهمة كبيرة في تشكيل العقل السياسي العربي.
6- وأخيراً، قوة الإعلام المصري المقروء والمسموع والمشاهد بعد حرب 1956، والانتصار السياسي الذي حققته مصر في هذه الحرب، رغم هزيمتها العسكرية، لعب دوراً كبيراً في تشكيل العقل السياسي العربي.

-3-
ولكن كيف أفسد العقل السياسي المصري العقل السياسي العربي إذن؟
لقد كان هذا الفساد والإفساد من خلال ظواهر كثيرة منها:
لجوء السياسيين المصريين والإعلام المصري إلى والسحر والشعوذة في تفسير الأحداث العربية السياسية المهمة. ففي أيام الوحدة المصرية السورية يروي لنا رياض المالكي في كُتّابه (ذكريات على درب الكفاح والهزيمة) أن عدداً من الوزراء السوريين في دولة الوحدة المصرية ndash; السورية، كانوا يقومون بادعاء تحضير الأرواح. وأن فاخر الكيالي أحد الوزراء السوريين المركزيين في حكومة الوحدة قد قال: quot;إننا نعمل في مصر مع بعض الوزراء المركزيين على عقد جلسات تحضير الأرواح. وأن هذه مسألة علمية، لا شك في جديتها. والسلطات العليا في مصر والمسئولون الكبار يهتمون بها ويمارسونها. وهي تساعدهم على حلِّ عُقد كثيرة في شؤون السياسة والحكم . وهو ما يدلُّ على أن أكبر دولة عربية، وأطول وأعرض شارع عربي، كان يمارس السحر والشعوذة، في ذلك الوقت.

-4-
كما يروي لنا محمد حسنين هيكل في مقاله (تحضير الأرواح) الذي كان فضيحة كبرى نشرها في جريدة quot;الأهرامquot; في 4/5/1971، حول اشتغال رجال السياسة القمة المصريين من كبار معاوني عبد الناصر بتحضير الأرواح، ومنهم وزير الحربية الفريق أول محمد فوزي، وسامي شرف، سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات، وشعراوي جمعة وزير الداخلية. وكان الوسيط بين هؤلاء وبين الأرواح المزعومة أستاذاً جامعياً. وحسب رواية هيكل، فإن هؤلاء كانوا يقومون بسؤال الجان للحصول على إجابات تتعلق بالوضع العسكري والسياسي الإسرائيلي!

-4-
وبعد هزيمة 1967، كلنا يذكر ظهور السيّدة العذراء في كنيسة الزيتون في مصر في العام 1968، على إثر هزيمة 1967، وكيف أن السيّدة العذراء هي التي ستحرر القدس، وتُعيد سيناء. وكيف تولّت جريدة quot;الأهرامquot; في ذلك الوقت الترويج الإعلامي الواسع لهذه الشعوذة، ونشرت في 5/5/1968 صوراً للعذراء تظهر بكاملها على سحاب ناصع البياض، أو بشكل نور يسبقه انطلاق أشكال روحانية تشبه الحمام. وكيف أن عدداً من أساتذة الجامعة تصدوا لعَلْمنة هذه الحادثة. وقام رجال دين ومفكرون وعلماء بكُتّابة مقالات quot;علميةquot; لإثبات هذه الحادثة وتعليلها، وذلك كله نتيجة لخيبة الأمل والهزيمة الكبرى التي حلّت بالأمة العربية في العام 1967.

-5-
وهناك قصة روتها فتاة مصرية، تقول فيها، أن العذراء قد أجرت لها عملية جراحيـة ناجحة. وقامت مجلة quot;روز اليوسفquot; في 18/9/1972 بالترويج لهذه القصة ونشر تفاصيلها. وكان ذلك كله بوحي من السلطة الحاكمة لتخدير الشارع العربي المهزوم والمجروح في كبريائه القومي والوطني. وكذلك انشغال كثير من الكُتّاب والصحافيين المصريين بمسألة تحضير الأرواح وعلى رأسهم أنيس منصور ومصطفى محمود وغيرهما. وقد نشر أنيس منصور كيف أن السفير المصري في جاكرتا، وطاقم السفارة هناك بما فيهم الملحق العسكري والصحافي والثقافي، كانوا يقومون بتحضير الأرواح بالسلّة. وشرح أنيس منصور لقرائه في جريدة quot;أخبار اليومquot; كيف يمكن لأي قارئ أن يقوم بذلك بسهولة في بيته، ويستحضر من يريد من الأرواح بقليل من البخور!
ولم يكتفِ أنيس منصور بترويج quot;تكنولوجيا الأرواحquot; بل ذهب إلى تقديم quot;مساهمة نظريةquot; في علم الأرواح عرضها في كتابه quot;حول العالم في 200 يومquot;.

-6-
من ناحية أخرى، كان الشيخ محمد متولي الشعراوي الداعية الإسلامي المشهور، يكره الحكم الناصري، ويُعدَّه حُكماً شيوعياً، ولذا فقد صلّى ركعتين شكراً لله على هزيمة 1967. وقال أن الملائكة هبطت من السماء ودحرت قوات الإلحاد (القوات المصرية). في حين كان الشعراوي يحب السادات ويؤيده، وتولّى في عهده وزارة الأوقاف. وقال كذلك، أن الملائكة حاربت إلى جانب القوات المصرية في أكتوبر 1973. وكان ذلك سبب النصر الجزئي المحدود للجيش المصري!
فهل هناك جناية أكبر من هذه الجناية، على العقل السياسي العربي؟
السلام عليكم.