يتحدث السياسيون وا لاداريون في العراق عن الفيدرالية فكرة ومشاريع وفلسفة، وتطرح في الاثناء صور للفيدرالية، فهناك الفيدرالية القائمة على أساس جغرافي، وغيرها القائم على أساس عرقي أو قومي، وثالثة قائمة على اساس لغوي، فهناك الفيدرالية الاقتصادية والفيدرالية الأدارية والفيدرالية الجغرافية وهكذا، ولكن هناك إغفال لفيدرالية أخرى، ذات هوية أخرى، إ نها الفيدرالية الثقافية إذا صح التعبير، والذي اقصده بالفيدرالية الثقافية حق كل مكون ثقافي بالحياة والنمو والانتشار والتطلع، فاللمسلمين ثقافتهم المتيزة، وللمسحيين كذلك، وبالمثل للصابئة، وطبق ذلك للاثورين وا لشبك والأيزيدين، ومناظرة للعرب والتركمان والاكراد، وهكذا مع كل مكون من مكونات الشعب العراقي، والفيدرالية الثقافية تعني التعامل والتعاطي مع هذا التنوع على أسس مدروسة وموضوعية، تتناسب مع الحق العام للإنسان.
هذا هو ما أقصده بالفيدرالية الثقافية، وفي الحقيقة ليس با لضرورة تبني مشروع الفيدرالية القائمة على اساس قومي يحفظ كيان الفيدرالية الثقافية، فطالما تُعتمَد الفيدرالية القومية كحدود جغرافية ليس إلا، أمّا الحقوق الثقافية فتعاني القهر والقمع، فيما إقرار وتكريس وانتصار الفيدرالية الثقافية يشكل ضمانة لتحقيق الفيدرالية القائمة على أي اساس من الأسس، إذا لم يكن اليوم فغدا، وإذا لم يكن بجهود الجيل الحاضر فبجهود الأجيال الآتية.
الفيدرالية الثقافية من أهم معالم الحكم الديمقراطي، ومن أهم معالم السياسة الحضارية، المنسجمة مع طموحا ت الانسان وكرامته، وفي العراق حيث الديمقراطية الوليدة ينبغي لصناع القرار السياسي الالتفات إلى موضوعة الفيدرالية الثقافية هذه، لأن العراق من أكثر بلدان العالم تزدحم مساحته بالثقافات المتنوعة.
إن الاعتراف بثقافة هذه المكونات من قبل صناع القرار السياسي، او من قبل نظام الحكم في العراق لا يكفي كما يتصور البعض، وكثيرا ما نسمع من الأكثرية بأنها تحترم حقوق الاخر الثقافية، بل هناك ما هو اهم من الاحترام هذاhellip;
إن الخطوة الاولى هي الاعتراف بثقافة كل المكونات بلا تمييز وبالا تفضيل وبلا تغليب بأي شكل من الأشكال، وإذا كان هذا الاعتراف يضمن الجانب القانوني لهذه الثقافات بداية، فإن الخطوة الثانية هي حماية هذه الثقافات من كل محاولة تريد الاستحواذ على الحق الثقافي في البلد، وكل محاولة تريد أن تجعل من ثقافة ما هي السائدة، وهي القيِّمة، وهي الفيصل، بحجة الاصالة أو حجة الأحقية الدينية والايدوجلية أو أ ي حجة أخرى، بل الفيدرالية الثقافية تعني ما هو أكثر وأعمق، فإن الدولة مسؤولة عن تعميق الحس الثقافي الخاص بكل مكون من مكونات الشعب العراقي، على أساس أن ذلك جزء لا يتجزا من تراث العراق، ثم العراق نفسه، وبذلك نصنع مجتمعا يصدق عليه بحق أنه مجتمع متعدد الاعراق وا لاديان والمذاهب، يشعر بالتماسك الاجتماعي، ويثمن السلم الاهلي، فمن حق كل ثقافة أن تبذل الدولة من المال العام على تنمية أصولها، وترقية مستواها، وحفظ تر اثها، وإ شاعة مفاهيمها وقيمها في وسطها الديمغرافي، وعلى أرضها، وفي مدنها، وقراها، وأن يكون لها حظ من مساحة التعريف بالثقافة العراقية بشكل عام في كتب التربية وا لتاريخ، وبالتالي، يشخص بكل وضوح واجب الدولة في محاربة ومعاقبة كل من يسيء إلى ثقافة الأخر، مهما كانت هذه الثقافة متخلفة أو سلبية أو باطلة في نظر هذا المتجاوز.
الفيدرالية تدخل في صميم الشعب، وتتغلفل في تضاعيف مكوناته، فهي ليست بالضرورة محصورة في منطقة جغرافية محدودة، فمن الطبيعي جدا أن يتواجد الكردي العراقي في منطقة يغلب فيها العرب، بل هي منطقة عربية بامتياز في نطاق الجغرافية العراقية، كذلك بالنسبة للعربي قياسا للاكراد وغيرهم من القوميات، وقس على ذلك فيما يخص المكونات الدينية والمذهبية.
الفيدرالية الثقافية تشكل أحد أركان الأمن القومي العراقي، فإن تسييد ثقافة على ثقافة، وتغييب أي ثقافة من ا لثقافات التي تؤسس المشهد الثقافي العراقي العام إنما هي محاولة لتصديع الجبهة الداخلية، وخلق العداء والكراهية بين أبناء الشعب الواحد، ثم يؤدي مثل هذا الموقف إلى نشوء نظريات التعصب وا لشوفونية، مما يولد معه نزعة إرهابية إنتقامية، تكسب هوية ثقافية مقيتة قاسية، مما ينبتها في الضمائر والوجان.
إن القمع الثقافي من أقسى أنواع القمع الذي يعاني منه الإنسان اليوم، وهو احد اسباب الفوضى التي يعاني منها العالم، الفوضى الأمنية بشكل خاص، وليس من شك كان لسياسة الديكتاتورية التي انتهجها النظام العراقي السابق ضد ا لثقا فات الاخرى، بحجّة الحفاظ على وحدة الوطن، وتجنيبه شر التشظي، وسيادة الثقافة الانقىhellip; كان لها الاثر السيء في ما وصل إليه الوضع في العراق اليوم.
الدولة العراقية مدعوة حقا إلى تكريس مشروع الفيدرالية الثقافية في العراق، باشراف لجان متخصصة من كل منتسبي الاديان والقوميات والطوائف، وعندها سيكون نموذجا راقيا للديمقراطية في المنطقة، بل العالم.