من المهم لنا اليوم في العالم العربي أن ندرك أننا نمر بتجربة فريدة، وهي تجربة الوطن بمفهومه القطري الحالي. فالأوطان العربية بتشكلها الحالي قد مر عليها على الأقل أكثر من نصف قرن من الزمان، وهذا ما قد أتاح فرصة زمنية مناسبة يفترض أن تكون قد ساهمت في إنضاج مفهوم الهوية الوطنية لدى الدول العربية المختلفة. ويرى المفكر محمد جابر الأنصاري أن العرب لم يتح لهم فعليا في السابق تجربة الدولة المؤسسية العضوية الثابتة بمعناها المباشر والحيوي اليوم. ويقف موقفاً مغايرا من الذين يعتبرون أن العرب بعد الدولة العثمانية قد خرجوا من الوحدة إلى التجزئة، فهو يرى أن كثير من الدول الوطنية العربية تشكلت في واقع الأمر كتوحيد لبناها المجتمعية الصغيرة، والتي تبعثرت بعد انهيار الخلافة العثمانية. كما أنه لو تحقق للعرب والمسلمين انجازات على مستوى أكبر، فإن الانجاز على المستوى الوطني ابتداءاً هو شرط لذلك. فيقول quot;بدت الظاهرة الوطنية في الوعي العربي الحديث وكأنها (إثم) قومي، و(خطيئة) أولى، لا يمكن للعربي أن يقاربها ويعايشها إلا وهو متلبس بنوعٍ من الجرم، على الرغم من أن الواقع: الوطني ndash; القطري هو الواقع اليومي المعاش على مختلف الأصعدة لكل مواطن عربي، وهو منطلقه ومنفذه لكل تعاطٍ آخر، قومياً كان أم إقليميا أم دولياً، وبغض النظر عن مدى شعورنا الذاتي تجاه مشروعية أو شرعية ذلك الواقع الوطني من زاوية مثالياتنا القومية أو الدينيةquot;(العرب والسياسة: أين الخلل؟، ص 139).

إدراك الهوية شرط لإدراك الذات، ومنطلق للعمل. وبعد كل هذه الفترة الزمنية في العالم العربي من التمازج مع تجربة المفهوم الوطني للهوية، لا يبدو أن صورة هذه الهوية قد اتخذت ملمحاً واضحاً. ففي استطلاع حديث للعام 2009 أجرته مؤسسة زغبي للأبحاث مع عينة من أكثر من 4000 مواطن عربي في دول عربية مختلفة، كان هناك سؤال: ماهي الهوية الأهم التي تقدّم بها نفسك؟ فكانت نسب الإجابات ( 32% مسلم، 35% مواطن تبعاً لمسمّى دولته، 32% عربي، 1% مواطن عالمي). وهذه النسب المتقاربة كما هو واضح تفيد التوزع والانقسام في العالم العربي بين هذه الرؤى الرئيسية الثلاثة، وعدم وجود مَلمح لهوية متسيدة. وإن بقي سؤال الهوية غير محسوم، فهذا ما يُبقي الباب مُشرعاً أمام كل الاحتمالات. صحيح، هناك تجاذب وتداخل بين الهويات، فكونك مواطن سعودي يتداخل مع كونك عربي ومسلم، ولكن ما نقصده هنا ونركز عليه هو (الهوية) كبنية أساس، تمثل وحدة عضوية ذات إطار متماسك يمكن أن تكون المنطلق للتعامل والتداخل مع بقية الأطُر والمحاور، وهو الدور الذي يكون مناسباً للهوية الوطنية أن تتمثله وتقوم به. نعم، هناك أسباب متعددة تقف خلف عدم تشرّب الهوية الوطنية في العالم العربي، ومن ذلك ما تلام فيه الحكومات نفسها، لكن من الجيد أن يفهم الجميع أن التسليم بالهوية الوطنية، يجعلنا نؤمن أنها غير قابلة للمداولة، وأنها تستعلي على مسألة الاختلاف والتغاير، والتحرر والتحفظ داخل جسد المجتمع الواحد، بل ومستعلية أيضاً على مسألة الشد والتجاذب، بين الفرد والمؤسسة، والحاكم والمحكوم. وأن نعرف أنه كما أن المشاكل تتم داخل محيط هذه الهوية، فالحلول أيضاً يجب أن تتم من داخلها. أن تكون هي جزء من الحل، أو جزء من المشكلة، فهذا ما لا يجعلها مسلمّة. ولو كانت مسألة الهوية الوطنية محسومة ومتضحة ومترسمة لدينا كما يجب، لما وجدنا أن اسم أميركا أو إيران يتردد في العالم العربي أكثر من اسم أوطانه نفسها.

قبل سنوات شاهدت الفلم الوثائقي (أشلاء العراق)، وهو فلم حاول من خلاله المخرج (جيمس لونغلي) أن يقدم تصويراً مباشراً من الواقع لحال عراق ما بعد الحرب، عبر تحسسه وتتبعه لثلاث حكايات مختلفة، حكاية صبي بغدادي يتيم من عائلة سنية، وقائد شاب في حركة الصدر الشيعية، وعائلة كردية تعمل في صناعة القرميد. والمحصلة التي نخرج بها من هذه المشاهد تخبر أنه كان هناك إحباط على المستوى السني، حماس على المستوى الشيعي، وتفاءل على المستوى الكردي. وهذه الصورة التي ظهرت في عراق ما بعد الحرب، لم تكن لتظهر بهذا التمايز الحاد لو أن مسألة الهوية الوطنية كانت محسومة، وتم تشربها مسبقاً. وهو الأمر الذي فشلت السلطات السابقة في انجازه. يذكر الوردي في تاريخه عن العراق، أنه في الفترات السابقة كان الفرد الشيعي في العراق يفرح حين يقتحم بغداد شاه من حكام إيران، ويفرح السني حين يدخلها الوالي العثماني، حيث لم تولد في أذهان الناس بعد فكرة أن يكون العراق بلداً مستقلاً، عن تلك السلطات. وهو أمر يكون متفهماً إذا وضعناه ضمن سياق تلك الفترة، والأوضاع السيئة التي كانت تعيشها المنطقة. ولكن حتى بعد ولادة الدولة الحديثة في العراق، نجد أن الأمر كان متعسراً جداً على تعميم الحس الوطني. فعلى سبيل المثال يذكر المؤرخ حنا بطاطو في كتابه عن الطبقات الاجتماعية في العراق أنه في العام 1923 كانت هناك عريضة تحمل أختام 400 شخص تناشد الخليفة العثماني إنقاذ العراق من الأجانب ومن فيصل وأبيه الذي جاء ليفكك المسلمين تحت راية قومية عربية (ج1، ص 359).

وتبدو الهوية وكأنها تتمثل في ذاتها نوعا من الثقافة، ومن الثقافات ما تكون خصبة قادرة على الاحتواء، ومنها ما تكون ضيقة لا تتسع إلا لنفسها. والهوية كذلك، لابد أن تتضمن انعكاساً لمن هم داخل هذا الجسد، وحضناً حاوياً لهم. ولهذا مثلت الهوية نوعاً من التحدي، وكان سؤالها سؤال المعادلات الصعبة، وأصبحت معضلة كبيرة في أجزاء متعددة من العالم. فقبل سنوات أصدر المفكر صامويل هنتجنتون كتابه (من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية). وفي هذا الكتاب يقف هنتنجتون على الضد ممن يعتقدون أن أميركا هي خليط متعدد من ثقافات وإثنيات وأعراق مختلفة، ويرى أن لأميركا هوية ذات ملامح محددة تتمثل في البريطانيين البروتستانت الذين أوجدوا أميركا. وعلى الرغم من بُعد تحقق هذا الرأي، والانتقاد الواسع الذي حظي به، إلا أننا نستطيع أن نتفهم دوافعه، فقد أراد تقديم بنية متماسكة، ذات وحدة واضحة، خوفا على الهوية من الذوبان والتفتت، سواء انتصر للأنجلو- بروتستانت أو غيرهم من البيض. ومشكلة هذا الحل تكمن في أنه ليس بحل .!! فمع طريقة هنتجنتون لا يملك الآخرون إلا محاولة الانصهار -العَسِر- مع الهوية المتسيدة، أو البقاء على هوياتهم مع تحمل اختلال الميزان الاجتماعي. والرأي الأصلح تمثل في الكتاب التحليلي المقابل لجيمس زغبي حول كيف ترى المجموعات الأميركية المختلفة نفسها (What Ethnic Americans Really Think)، حيث رأى الكاتب أن أميركا لم يكن لها أن تكون (بوتقة انصهار) ينبغي أن يذوب فيها المتغايرون، بل نوع من الفسيفساء التي يجتمع فيها المختلفون وفق ثقافة وطنية ذات قيم مشتركة. إن مشكلة الهوية تكمن في أنها تتأرجح بين حدين، أن تكون هوية صارمة ذات وجه أحادي، فتصبح هوية (قاتلة) على حد تعبير أمين معلوف، أو أن تكون ذائبة مشتتة لا تكاد تجد نفسها أو تعبر عنها من خلال وحدة معينة. ويكمن الحل -إن زعمنا تبسيطه- في أن تدرك الهوية بأبعاد مشتركة تناسب محيطها الذي تتواجد فيه، ومن ثم يتم التحرك من خلالها للالتصاق، أو التفاعل، أو حتى للتضاد. لقد كان قدر الهوية أن تكون وجهاً عاكساً لوجوه أهلها، وأن تكون حاضنة للمتغايرات، وحافظة لسر البلد، كما كان قدر النواة أن تكون quot;حافظة لسر النخيل.quot;

للتو انتهيت من كتاب (العراق والبحث عن الهوية الوطنية) للباحثة ليورا لوكيتز. وهو كتاب يتفحص عن قرب المشكلة العميقة للعراق مع الهوية الوطنية خلال فترة العهد الملكي (1921-1958). ففي بدايات تشكل الدولة كانت هناك فرص جيدة لتحقيق مفهوم الوحدة الوطنية، تمثلت في التحالف السني الشيعي من خلال (ثورة العشرين) ضد المحتل البريطاني. وأيضاً في عهد الملك فيصل كان يمكن للكردي والتركماني أن يصلا لأعلى المراتب في الدولة، إضافة إلى أنه كان يملك قناعة بضرورة مشاركة الشيعة في صياغة الهوية الوطنية، ولكن تحكم النخبة الحاكمة من حوله والذي تعاظم بمرور الوقت، إضافة إلى موته المفاجئ ndash;حيث لم يعرف الناس قيمته إلا بعد موته- أدى إلى انقطاع قنوات التواصل مع الشيعة، مما أثر سلباً عليهم، وساهم في انعزالهم عن الدولة. لقد مثلت تلك الفترة في تاريخ العراق عمق أزمة الهوية حيث وجد السكان صعوبة في نقل ولاءاتهم السابقة إلى ولاء عصري جديد. خصوصاً أنهم كانوا يرون أن هذا المفهوم الجديد الذي تمثله الهوية الوطنية يأتي مصبوغاً بالهوية العربية السنية. والافتقار إلى هوية حاضنة كمثل هذه الحالة، كفيل بخلق الارتدادات والانقسامات التي تتشكل كردة فعل على الهوية المتسيدة. فالأكراد رفضوا الخضوع للعرب سياسياً، ولذا رأى الكاتب أن انجذابهم إلى (التصوف) كان quot;ردة فعل ضد الإسلام بمفهومه المؤسساتي ذي الأبعاد السياسية.quot; إضافة إلى أن عزلة الجنوب العراقي، ومعيشته في ظل ظروف اقتصادية صعبة، تحت ضغط من الأقاليم الإدارية عليه، خلق ردة فعل تمثلت في دخول بعض القبائل العراقية في (التشيع)، تمايزاً عن الدولة وهويتها في ذلك الوقت، سواء كانت عثمانية أو عربية بغدادية (ص61، 89). نعم، من المسلم به أن هناك اختلاف عرقي وطائفي، ولكن كل هذه الاختلافات لا تذهب بعيدا إلا بمقدار المعنى الاجتماعي الذي نلبسها إياه، فقد يكون المعني الاجتماعي قائد خلاف أو قائد تعاون. والنافذة الذهبية التي يمكن من خلالها تقديم هذا المعنى الاجتماعي هي نافذة الهوية الوطنية، وهو الدور الذي يفترض أن يقوم به السياسي عبر حبكه لأبعاد هذه الهوية. فالسيطرة والضبط لما هو اجتماعي وسياسي، كفيل بالتأثير على ما هو أثني وديني.. فالهوية الوطنية ليس لها ما تفعله مع الدين والمذهب والعرق، فهذه سوابق لها، ولكن لها ما تقدمه بالتأكيد من خلال الاجتماعي والاقتصادي. إن إدراك الهوية الوطنية مُلغٍ وقامع للعديد من الأفكار السلبية، كمثل ما يقول بعض السذج اليوم أن العراق قد حكمه السنة في السابق، وينبغي أن يحكمه الشيعة الآن، فينظر للوطن وكأنه غنيمة يرتد من يد هؤلاء إلى يد أولئك. وفقدان إدراك هذه الهوية، سيُعيد دوماً إلى مربع البداية، وخانة الصفر، فالذين تتجاهلهم وتضيق عنهم هذه الهوية سيعودون من جديد للثورة عليها، وهكذا.. إن العراقيين اليوم يعرفون جيداً مثلنا ومثل كل أحد آخر، أنهم لن يجدوا في وقت أزمتهم إلا المراهنة على ما هو وطني، وكل صوت غير ذلك هو صوت خافت، لا يأتِ إلا كفحيح في ظلام. ولا يراهن على الوطن إلا من هو متأصّل فيه، ومن يعرف أنه سيدفع الثمن في حال تعرضه للخطر. وهذا المثال من عالم الأمس العراقي، مهم جداً في عالم اليوم. فإذا كانت نخبة الأمس قد سرقت هوية الوطن وألبسته وجهها، فلابد من تحسس الوضع الآن، والانتباه لهذه النخبة المتحكمة اليوم. فيكون السؤال المهم الذي يستطيع العراقيون أنفسهم الإجابة عليه: أي وجه للوطن وأي صبغة للهوية نشاهد حكومة المالكي تحاول إلباسها للعراق في كل يوم؟؟!!

في كتابه (الهويات القاتلة) يرى أمين معلوف أن الهوية تكون قاتلة حين تختزل في انتماء واحد، يجعل الإنسان متخندقاً، ومتعصباً له عبر زاوية وحيدة. لذا لابد من التزحزح قليلاً عن هذه الزاوية، وأن يحدث نوع من التماهي مع ما في الوطن، والعالم أيضاً. أن يشعر الفرد أن هوية هذا الوطن تستطيع أن تحتوي (ما ليس هو) ومع ذلك تبقى هويته. ومن خلال هذا الكتاب نستطيع أن نتحسس كم هي خطرة مسألة الهويات، فعالم اليوم عالم مليء بالجماعات الجريحة، والتي تكون مستعدة لأن تجعل الهوية الأحادية مركوباً لها يأخذها إلى أخطر المراحل.

[email protected]