كان أول مقال اقتصادي نشرته هذه السنة بتاريخ 11 يناير 2009 على صفحات quot;إيلافquot; بعنوان quot;2009 سنة الكساد و الانتعاش الاقتصادي.quot; و كنت اعني بذلك أن الانتعاش الاقتصادي سوف يبدأ مع نهاية السنة الحالية، أي أن الركود الحاصل منذ سنة 2008 لن يتواصل إلى ما لا نهاية، كما أن هذا الركود لن يتحول إلى كساد كبير كما حصل سابقا في نهاية العشرينات من القرن الماضي. و السبب في ذلك ثقتي الكبيرة بان رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي quot;بين برنانكيquot; الذي سخر حياته الأكاديمية كلها لدراسة الكساد الكبير و دور العوامل النقدية فيه، لن يسمح بتكرار الأخطاء السابقة مرة أخرى.
أما الفكرة الثانية التي احتواها المقال فهي تتلخص في أن أمريكا سوف تكون السباقة في الخروج من الركود بحكم: (1) التدخل المبكر لبنك الاحتياطي الفيدرالي الذي ضخ قرابة 800 مليار دولار لدعم سيولة البنوك والمؤسسات الأخرى، (2) برنامج الانتعاش الحكومي للرئيس الجديد اوباما الذي يقارب التريليون دولار، (3) خبرة أمريكا في التعامل مع الأزمات المالية، (4) مرونة القوانين الأمريكية مثل قوانين الإفلاس وقوانين العمل، و(5) التنافسية الكبرى للاقتصاد الأمريكي الذي جاء في رأس القائمة حسب تصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس.
و هذا ما أكده آخر تقرير لمنظمة التعاون و التنمية، إذ ورد فيه أن النمو الاقتصادي قد عاد من جديد خلال الربع الثالث من هذه السنة، حيث حققت أمريكا معدلا سنويا لنمو الناتج المحلي الإجمالي يقدر بنسبة 1،6% مقابل 0،3% في منطقة اليورو و 1،1% في اليابان. و يتماشى هذا مع مؤشرات اقتصادية أخرى مثل إنتاج القطاع الصناعي و مبيعات السيارات. و بالرغم من أن نسبة النمو كانت سالبة خلال هذه الفترة في المملكة المتحدة، إلا أن المؤشرات الأخيرة تؤكد ارتفاع مؤشر ثقة المستهلكين و ارتفاع معدل التوظيف خلال شهر أغسطس لأول مرة منذ أكثر من عام في هذه الدولة.
كل المعطيات تشير إذا إلى مواصلة النمو الاقتصادي في الربع الأخير لهذه السنة، لكن الانتعاشة سوف تكون محدودة في البداية بحكم البطالة المرتفعة في الدول المتقدمة و محدودية الطلب على الاستهلاك و صعوبة الحصول على القروض المصرفية حيث مازالت البنوك تتوخى الحذر.
مع التحقق من نهاية الركود سوف يتعين على المصارف المركزية البدء بتدارس أفضل السبل للسيطرة على السيولة التي ضختها في الأسواق، خلال الفترة الماضية، و ذلك بهدف مواجهة الضغوط التضخمية. و هذا ما أكد عليه رئيس المصرف المركزي الأوروبي يوم الاثنين الماضي عندما صرح: quot; السلطات النقدية في العالم موحدة الهدف عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على التوقعات التضخمية الناجمة عن التوسع النقدي و التوسع في الإنفاق الحكومي،quot; محذرا من عواقب الانتظار غير المبرر لمراجعة أسعار الفائدة نحو الارتفاع.
أما التحدي الثاني مع عودة النمو الاقتصادي فيتمثل في ضرورة التعامل مع الانعكاسات السلبية للإجراءات الحمائية (أي حماية الاقتصاد الوطني من المنافسة الخارجية) الذي يتناقض مع أسس تحرير التجارة العالمية و الذي كان من أهم عوامل تحول ركود سنة 1929 إلى كساد كبير. و تفيد البيانات المتوفرة ان الإقراض فيما بين الدول لتمويل التجارة الخارجية انخفض بحوالي 4،8 تريليون دولار، خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2008. لذلك يتطلب رفع هذا التحدي تعاونا اكبر بين مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد و البنك الدوليين و المنظمة العالمية للتجارة.
و أما التحدي الثالث فهو يتمثل في مراجعة الإطار التنظيمي للأسواق المالية بما فيها البنوك و شركات التمويل العقاري و شركات التامين و صناديق التحوط و البورصات. و هنا لا بد من مراعاة التوازن بين توفير التشريعات الضرورية للحد من المخاطرة التي تهدد النظام المالي بأكمله، مع التأكد من بساطة التشريعات و سهولة تنفيذها، و ترك المجال للمؤسسات المالية للمخاطرة بأموالها الذاتية على اعتبار ذلك من أسس نشاط هذه المؤسسات من العبث محاولة إلغائه بالكامل، إذ أن ذلك سوف يؤدي إلى تدمير الأسواق المالية برمتها، و لا معني لوجود اقتصاد السوق دون وجود أسواق مالية تنافسية.

كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن
[email protected]