من مفكرة سفير عربي في اليابان

الحلقة الأولى

ناقش البروفيسور روبرت ريش وزير العمل الأمريكي السابق في كتابه، الرأسمالية الفائقة، التحديات الذي تواجهه الولايات المتحدة ورئيسها، باراك أوباما، لتحويل الرأسمالية الفائقة لرأسمالية ديمقراطية فاعلة. فقد أختار الشعب الأمريكي في نهايات القرن التاسع عشر مشاركة واقعية بين الرأسمالية والاشتراكية، فنظم تشريع شيرمان لعام 1890 المؤسسات الخاصة، وجزء الشركات العملاقة لوحدات صغيرة لمنع الاحتكار، كتجزئة شركة ستاندرد اويل للنفط، والجنرال إليكتريك للآليات والاي تي اند تي للاتصالات. وقد عانى القضاء من صعوبة أثبات تهمة الاحتكار ضد هذه الشركات، وتردد القضاة من تجزئة شركات مرموقة للخوف على كفاءة إنتاجيتها الهائلة. وفي عام 1909، وصى هربرت كرولي الكونجرس بتشريع قوانين توجهه الشركات الخاصة نحو الاهتمام بمصالح المجتمع وترسيخ الديمقراطية فيه. فدمجت الرأسمالية بالديمقراطية، فكانت هناك مؤسسات مستقلة مسئولة عن وضع معاير للتصنيع، وتحديد المصالح العامة للمواطنين، والمحافظة على استمرارية الشركات في توفير منتجات منافسة وربحية مناسبة. وفي منتصف القرن العشرين، كان 15% من الاقتصاد الأمريكي مقيدا بالأنظمة، بينما امتزج 85% منه بخلطة رأسمالية ديمقراطية، جمعت بين الجمعيات الصناعية التطوعية، ومجالس إدارية حددت معاير التصنيع بالتعاون مع الحكومة. كما طالب هنري هاريمن، رئيس غرفة التجارة الأمريكية، في الثلاثينيات من القرن الماضي: quot;بأن يحل محل السوق الحرة فلسفة خطة لاقتصاد وطني.quot; فقد حاول الأمريكيون تطوير رأسماليتهم تدريجيا، بتحويل الشركات العملاقة الخاصة لمؤسسات ديمقراطية فاعلة، وذلك بمناقشة قياداتها مسئولياتهم الوطنية والاجتماعية، وبمشاركة العاملين والمستهلكين مسئولية السلطة فيها.
فقد أهتم الرؤساء التنفيذيين لهذه الشركات العملاقة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بمسئوليتهم الوطنية، فساهموا في خلق التوازن بين مصالح المساهمين والعاملين والمواطنين. فزادت الثقة بديمقراطية الرأسمالية، لزيادة إنتاجية هذه الشركات، وتوفيرها المنتجات للمستهلكين بأسعار منافسة، ومشاركتها المواطنين في الربحية والثراء. وقد تحددت الشركات العملاقة في عدد قليل من المؤسسات الخاصة، والتي تعاونت مع بعضها لتوفير كميات هائلة من مختلف المنتجات للمواطنين، فزاد استقرارها وقلت المنافسة بينها، وشاركت في واجباتها الوطنية لبناء الوطن. وتعايشت هذه الرأسمالية الديمقراطية في نظام مترابط، جمع السياسة والاقتصاد، فكانت الشركات تخطط وتنتج كميات هائلة من البضائع المخفض سعر تصنيعها لتوفرها لجميع المواطنين، وتعاونت مع بعضها لكي تحدد سعرا مناسبا، تضمن ربحيتها، وتوزع الأرباح بين المساهمين والمدراء والعالمين، وتبقي جزءا لتطوير منتجات جديدة وتوفير تغطية للعاملين في تأمين الرعاية الصحية والتقاعد. وبالمقابل تجنبت الاتحادات العمالية الإضرابات والصراعات التي تعطل كفاءة الإنتاجية، وحددت الوكالات العامة المعاير المنظمة لأسعار المنتجات والخدمات. كما ترافقت هذه الفترة بحوارات ومناقشات بين الشركات والوكالات المنظمة والمشرعين والاتحادات العمالية، فادى ذلك لإنتاجية هائلة، وربحية كبيرة، ولتوزيع عادل للربحية، وخلق طبقة وسطى تستهلك ما تنتجه المصانع من منتجات عالية الجودة وبأسعار مناسبة، وليودي كل ذلك لاستقرار النظام السياسي في حلقة متكاملة.
وقد تغيرت، منذ سبعينيات القرن الماضي، أساسيات الرأسمالية الديمقراطية في الولايات المتحدة، حيث انتصرت الرأسمالية ليست فقط كأيديولوجية، بل أنها غيرت بنية الاقتصاد الأمريكي، وترافقت بسوق عولمة أكثر تنافسا، وانتقلت القوة للمستهلكين والمستثمرين وضاعت بينهما المواطنة. واختفت الأوجه الديمقراطية للرأسمالية، بانهيار المؤسسات التي كانت تناضل لعدالة توزيع الثراء، وتعمل على استقرار الوظائف والمجتمع، وتضع أنظمة وقوانين عادلة للعبة السياسية، والتي تمثلت في الاتحادات العمالية والوكالات التنظيمية والمؤسسات التشريعية. فقد تحولت العلاقة بين الشركات من تناغم تعاون محلي، لتنافس سوق العولمة المتوحشة، التي وفرت منتجات عالية الجودة وبأسعار رخيصة منافسة، لتسجل هذه الشركات ربحية ربع سنوية مرتفعة، للوقاية من عقاب المستثمرين، بانهيار أسعار أسهم هذه الشركات وطرد قياداتها. فقد استبدلت وطنية قيادات هذه المؤسسات، بجشع تنافس العولمة على الربحية، ولتخلف الرأسمالية الفائقة المتوحشة الرأسمالية الديمقراطية.
ويربط الكاتب تغيرات الرأسمالية الفائقة بتطورات تكنولوجية الاتصالات والمواصلات التي زادت منافسة العولمة، ومكنت المستهلك والمستثمر في الحصول على صفقات أكثر ربحية، وامتصت الاستقرار والعدالة والقيم الاجتماعية من ديمقراطية النظام الرأسمالي. فاهتزت في منتصف السبعينيات احتكارات الشركات الأمريكية العملاقة، لتصبح مبيعاتها وأرباحها ومسئولياتها أكثر تدبدبا، فبعد أن كانت تضمن مركزها في القمة لعقود طويلة، ولم تزد احتمال خسارة مواقعها عن 10% كل خمس سنوات، لترتفع منذ عام 1998 إلى 25%، ولتتزعزع قوتها التنافسية. فخلال الفترة بين عام 1970 وحتى 1990 ارتفعت نسبة اختفاء الشركات من فورشن 500 لأربع أضعاف، وزادت خسائرها ونسب إفلاسها. فقد أصبحت، منذ الثمانينيات، تكنولوجية الحرب الباردة في خدمة الجميع، فتطور الانترنت وأنتشر، ليحول السوق الشرائية لسوق عالمية تتنافس فيه ملايين الشركات الكبيرة والصغيرة بسرعة غير مسبوقة، لتوفر للمستهلك خيرة المنتجات وبأرخص الأسعار. وتقدمت طرق التصنيع والإنتاج والتوزيع بكفاءة عالية، وترافق كل ذلك بتحرر السوق من قيود الأنظمة، لتوفر فرص استثمارية كثيرة ومتنوعة، والتي أدت لمنافسة قاتلة بين الشركات الخاصة. وقد نتج من كل ذلك بيئة تنافسية شديدة، حركت مسئولي هذه الشركات لشراء نواب البرلمان ومسئولي الحكومة، من خلال دعم مرشحيهم بالمال لتغطية تكلفة حملاتهم الانتخابية الباهظة الثمن، لكي تضمن صدور تشريعات برلمانية تحمي مصالح الشركات ضد طوفان منافسة العولمة.
كما تنافست هذه الشركات بأموالها للعمل ضد الاتحادات العمالية، ودفعت الكثير لأضعاف دورها، لتستطيع تسريح العمال وخفض أجورهم، لتوفر منتجاتها بأسعار رخيصة. فمثلا كان ثلث العاملين في الولايات المتحدة منضمين للاتحادات العمالية في عام 1955، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 8% في عام 2006، كما أدى التوزيع الغير عادل للثروة لانكماش الطبقة المتوسطة، فزادت الفجوة بين القلة الفاحشة الثراء والكثرة القامعة في الفقر. ومع أن نسب الإنتاجية ارتفعت منذ الخمسينيات لثلاثة أضعاف، وزاد ثراء المجتمع الأمريكي بشكل كبير، ولكن لم يترافق ذلك بزيادة دخل الفئات العاملة عن 3% منذ عام 1974. كما أرتفعت نسبة ثراء 1% من الأمريكيين في عام 2004، ليحصلوا على 16% من الدخل الوطني، ليتضاعف دخلهم عن عام 1980. وزاد نصيب الفئة الأكثر ثراء، الممثلة بنسبة 0.1% من الأمريكيين، لثلاثة أضعاف منذ عام 1980، لكي يصل الثراء الإجمالي لهذه الفئة الصغيرة إلى 7% من الدخل الوطني. بينما لم يرتفع الراتب السنوي لي 95% من الأمريكيين، بين فترة عام 1974 وحتى عام 2004، عن 1% بعد أن انخفضت الأجور، ولم تعد الشهادة الجامعية ضمانة للحصول على عمل، وارتفعت نسب الأعمال الخدمية الزهيدة الأجر، والتي عادة لا تترافق بضمانات التأمين الصحي والتقاعد والتعطل.
وقد قام البروفيسور لوسين بيبشوك بدراسة ضريبية، وضحت بأن 83 مليار دولار التي ربحها 0.1% من الأمريكيين العاملين، حصل خمسة رؤساء تنفيذيين على أكثر من نصفها، والمقدرة بحوالي 48 مليار دولار. فقد ارتفعت النسبة بين متوسط رواتب الرؤساء التنفيذيين، ومتوسط رواتب العاملين بالشركات من خمسين ضعفا في الفترة بين عام 1936 وعام 1989، لأربعمائة ضعف في الفترة ما بين عام 2000 وعام 2003. وترافقت كل هذه التغيرات بتناقضات ذهنية مزدوجة بين المواطنين، فهم كمستهلكين ومستثمرين، يبحثون عن أرخص الأسعار لمنتجات عالية الجودة، بينما لا يرضون، كمواطنين، عن تبعاتها الاجتماعية، من نقص الأجور وتسريح العمال وفقد العمال لتأمين الرعاية الصحية والتقاعد والتعطل. كما ناضلت هذه الشركات العملاقة للمحافظة على الأسعار المنافسة لمنتجاتها، بتوفير موارد طبيعية رخيصة لصناعاتها وأسواق حرة لمنتجاتها، وذلك بدفع مخابرات حكوماتها للقيام بانقلابات دامية في دول العالم الثالث لمنع الحركات التنموية ووقف التأميم، كالانقلاب على الحكومة الوطنية للدكتور مصدق في إيران، والانقلاب الدموي للجنرال بنوشيه ضد حكومة الليندي المنتخبة في شيلي. وقد أدت كل تلك التطورات لفقد المواطن الأمريكي التوازن بين عقلية المستهلك والمستثمر، وبين عقلية المواطن ذو المسئولية الاجتماعية. وأدى كل ذلك لفقد الرأسمالية لديمقراطيتها وتحولها لرأسمالية متوحشة فائقة، وليرتفع عدد اللوبيات المدافعة عن مصالح شركاتها العملاقة في الكونجرس بواشنطن من ثلاثة آلاف وأربعمائة في عام 1977، إلى ثلاثة وثلاثين ألف في عام 2005، وزادت كلفتهم من مائة مليون دولار في الثمانينيات، لأكثر من مليارين ونصف في عام 2005. كما ارتفع عدد المحامين المسجلين في واشنطون، والمدافعين عن مصالح الشركات الخاصة، من ستة عشر ألفا في عام 1972، إلى سبعة وسبعين ألفا في عام 2004. والسؤال: كيف يمكن أن تطور منطقة الشرق الأوسط ديمقراطيتها الفاعلة في عالم العولمة، وبتحديات رأسمالية العولمة الفائقة؟ وهل ستشرع برلماناتها قوانين تمنع التبرعات الداخلية والخارجية الخاصة في الحملات الانتخابية، وتحول مسئولة تكلفتها على الدولة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان