بئس تلك الصخرة الكبيرة التي تمنعنا من الذهاب إلى أي مكان.. تنتزعنا أيضاً من عجلة الزمن التي لا تكف عن الدوران.. لتعتقلنا في كهف أو زنزانة، تفوق في وحشتها وعزلتها، كل زنازين ومعتقلات زعمائنا الأشاوس، فالتواجد خلف الجدران السميكة التي لمعتقلات زعمائنا الملهمين والضرورة، يمنح السجين لقب مناضل أو ثائر، أما من يقترب من تلك الصخرة، أو يفكر في مجرد خدشها، فإن الجماهير قبل طغاة الحكام، هم من يستنزلون عليه اللعنات، ليكون أمامه قائمة طويلة من النعوت، تبدأ من نعت خائن وعميل، لتصل إلى كافر وعدو لله.. تلك الصخرة هي ما نطلق عليها quot;ثوابت الأمةquot; في المجال السياسي، أو quot;العادات والتقاليد الأصيلةquot; في المجال الاجتماعي، أو تأخذ تعريف quot;صحيح الدين والمعلوم منه بالضرورةquot; في المجال الديني، والأخيرة تطلق على ما يقرره المسيطرون على شئون القداسة، بصفتهم نواب لله على الأرض، والذين يحشرون أنفسهم تعسفاً بين الإنسان وربه، بادعاء أنهم وحدهم هم الذين لهم الحق في إخبارنا بإرادة الله، وكأننا دواب لا تفهم ولا تعي.

تربينا جميعاً في شرقنا العتيد، على عبارة quot;يحيا الثبات على المبدأquot;، لكننا مع الأسف قد ركزنا على نصفها الأول، وهو quot;يحيا الثباتquot;، وتغاضينا عن جزئها الثاني، والذي يحدد الدائرة التي يصير فيها الثبات إيجابياً، ويكون التغير بالتالي سلبياً.. فصار الثبات في حد ذاته قيمة، والتغيير ولو إلى الأحسن سُبّة.. نعم صار التغيير إلى الأفضل وصمة يتهرب منها البعض، فكثيراً ما نجد رجلاً قد اغتنى بعد فقر، يحاول أن يقنع محدثه، أن الغنى لم يغير فيه شيء، وأنه مثلاً لم يغادر الحي الذي نشأ فيه، ولا غير عاداته وتقاليده.. وعادة ما لا ينتبه أحد إلى أن مثل هذا الرجل لو كان قد التزم بالفعل بما يقول، لكان معنى هذا أنه قد حرم نفسه من عائد جهده.. فالثبات صار قيمة في حد ذاته، بغض النظر عن درجة التزامنا الفعلي به.. في المقابل نجد مثلاً يقول: quot;اثنان لا يتغيران: الجدار والحمارquot;.

بالطبع الالتزام بالمبادئ الإنسانية العامة أمر إيجابي وجدير بالتقدير، فالخطوط العريضة للقيم الإنسانية تبقى ثابتة لا تتغير، مادام الإنسان هو سيد هذا الكوكب، لكن الأمر يختلف تماماً، إذا ما أدخلنا في دائرة المبادئ كل تفصيلات الحياة، بداية من آداب دخول المرحاض، مروراً بغطاء الرأس والملابس، حتى التوجهات السياسية وما شابه، فالامتناع عن مصافحة إسرائيلي مثلاً، صار من quot;ثوابت الأمةquot;، ومن يتجرأ من المسئولين أو حتى الأفراد العاديين على تجاوز هذا الثابت، يكون قد ارتكب جريمة ينبغي عليه التكتم عليها، وإلا ستنهال عليه وسائل الإعلام بالتساؤل والتنديد، مفردة له صفحات وساعات إرسال فضائي طويلة، ليحاول هو طوال الوقت جاهداً، إقناعنا بأنه لم يصافح ولم يتنازل ولم يفرط في quot;ثوابتنا المقدسةquot;.. بمثل هذا النمط من التفكير، تصير كل حياتنا ثوابت، فتملأ الطرق كما لو صخور تسد علينا كل دروب الحياة، وتحكم علينا الخناق، ومن يتألم أو يتذمر منها، يكون معرضاً للوصم والفرز والاحتقار من المجتمع، بل وحتى من أقرب المقربين إليه من أهله، ما يتضاءل إلى جانبه كل قمع وتعسف حكوماتنا البوليسية وآلياتها الرهيبة.

في المجتمعات التي تقدس الثبات كمجتمعاتنا، وتعتبره قيمة يحق للإنسان التفاخر بها ولو بالادعاء، تكون خير وسيلة لإضفاء الوقار والهيبة على الثوابت، هي منحها صفة القداسة، وذلك بنسبتها إلى الله، أي إلى كلام الله.. ففي هذا السياق مثلاً تم تحويل قضايانا السياسية -مثل قضية استعادة الحقوق الفلسطينية- إلى قضايا دينية مقدسة، لكي يكون ثباتنا في مواقفنا ورؤانا تجاهها، ثباتاً نهائياً ودائماً.. وليس من المهم هنا أن تكون تلك الثوابت قد وردت بنصها في النص المقدس الذي تؤمن به الجماعة.. فدائماً وفي كل مكان وزمان، هناك الرجال المسئولون عن المقدسات، أي المسئولين عن تحديد ماذا قال الإله وماذا لم يقل، وهم لا يعدمون وسيلة في استنطاق النصوص المقدسة بما يريدونها أن تنطق به، أو بإلحاق ما يشاءون من نصوص تراثية بها، لتصير هي الأخرى مقدسة.. وليس مهماً هنا أيضاً أن نجد فرقاً وشيعاً مختلفة من رجال الله، كل منهم يدعي أن ما يراه هو -وليس مايراه غيره- هو بالتحديد كلام الله.. فسدنة كل فرقة من هذه الفرق المختلفة، يحكم السيطرة على جماعته، باسم المقدسات وقيمة الثبات العليا.

هكذا لم تتأثر قيمة الثبات لدى العامة، نتيجة لتعدد العقائد المقدسة، من أديان وطوائف ونحل، ذلك أنها جميعاً تدعو للثبات، بل أننا نستطيع أن نجد لدى الشعوب عادات ومعتقدات قديمة تاريخية، تتعارض مع الدين المقدس الذي تعتنقه، لم ينجح الدين رغم سطوته الشديدة في القضاء عليها عبر القرون الطويلة، بل وكثيراً ما تكون مثل تلك الأمور ضارة أو خرافية، لكنها مع ذلك تبقى حية، فقط لاعتمادها على قوة التزام العامة بمبدأ الثبات.. يجعلنا هذا نرجح القول بأن تمسك الناس بالدين يرجع بالأساس إلى أنه يحمي لهم العزيز الأهم وهو الثبات، وليس العكس، بمعنى أن حب الثبات لم يتولد عند الناس نتيجة لاعتناقهم الدين الثابت بطبيعته.

لا يجانبنا الالتزام العلمي إذن، إذا قلنا أن حب الثبات وكراهية التغيير، صفة أساسية وجذرية في شخصية الإنسان، وأن هذه الصفة تلازم الإنسان منذ بداية تفجر وعيه حتى يومنا هذا.. يعني هذا أن الإنسان إذا تُرك وشأنه، فإنه سيبقى ثابتاً ومقاوماً لأي تغيير.. هنا نجدنا نعود إلى المثل الذي سبق لنا ذكره، والذي يقول quot;اثنان لا يتغيران: الجدار والحمارquot;.. لنأخذ الآن نصفه الأول، وهو quot;الجدارquot;، فما نسبناه للإنسان من مقاومة للتغيير، نجده لدى المواد الجامدة، فلكي تحرك شيئاً ثابتاً تحتاج إلى قوة، وأيضاً لكي توقف شيئاً متحركاً تحتاج إلى قوة، وتسمى هذه الخاصية للمادة في علم الفيزياء quot;القصور الذاتيquot;، بمعنى عجز المادة عن تغيير وضعها، سواء كانت ثابتة أو متحركة، وتحتاج للتغير إلى قوة، تعادل حجم التغيير المطلوب.. يعني هذا أن الإنسان بكل ما توصل إليه من وعي وفكر، بقي يحمل في شخصيته صفة أصيلة يشترك بها مع الصخور والأحجار، أو مع quot;الجدارquot;.

إذا كان ذلك صحيحاً، فكيف استطاع الإنسان قطع رحلته الطويلة من البدائية إلى الحضارة، من الحياة في الغابة مع سائر الحيوانات، إلى الصعود إلى القمر، وتطلعه إلى الوصول للمريخ؟

أو ماهي القوة التي أثرت على الإنسان، وأجبرته على مفارقة ثباته الأثير، والتحرك نحو مستويات حضارية عليا؟

كانت قوة احتياج الإنسان لتوفير مقومات حياته، وراء استخدامه للأدوات (الحجرية في البداية) لمساعدته على الحصول على ما يريد.. تلك كانت البداية، فقد أخذت الأدوات في التطور، لتجبر هي الإنسان على التغير، فساقته إلى التخصص، ليتفرغ كل فرد لأداء عمل واحد ومحدد، يخدم به نفسه والآخرين، ليزداد إتقانه لاستخدام الأدوات خاصته، تلك التي راح يطورها، لتعود هي وتطوره، وتملي عليه نمط حياته، كما يملي علينا الآن الموبايل والكومبيوتر وغيرها نمط حياتنا.. هكذا لا نقول أن تاريخ تطور الإنسان، هو في الحقيقة تاريخ تطور أدواته وحسب.. بل نقول أن حاجة الإنسان، مع المجال المفتوح واللانهائي لتطور الأدوات، شكلا معاً قوة دافعة، خلعت الإنسان من ثباته، ودفعته عبر آلاف السنين إلى الحركة والتغير الدائم والدؤوب.. بعد التقدم العلمي صرنا نسمي الأدوات quot;تكنولوجياquot;، التي تتطور الآن (ونحن معها) بصورة متسارعة ورائعة، لتكون هي قاطرة التقدم والتغيير وموجهه، وليس العقل النظري، أو الوعي الذاتي للإنسان.

إذا كان ذلك كذلك، وتوفرت للإنسان قوة تدفعه للتغير هي quot;التكنولوجياquot;، فلماذا نجد شعوباً متطورة، تدفع التكنولوجيا وتندفع للتطور معها، وفي مقابلها شعوب أخرى ساكنة ثابتة ثبات الصخور الأزلية، أو بالأصح لا تتغير إلا قليلاً، ولا تتقدم على مسيرة الحضارة، بذات حجم التطور في باقي أنحاء العالم؟

هنا نضطر للعودة إلى المثل الذي أخذنا نصفه الأول المتعلق بعدم تغير quot;الجدارquot;، لنتحول إلى نصفه الثاني، والذي يخبرنا بعدم قابلية quot;الحمارquot; أيضاً للتطور.

ترتبط بالحمار في ثقافتنا صفتان، أولهما البلادة أو ضعف الحساسية، والثانية الغباء.. فتحمل الحمار للضرب مثلاً، وتحمله للمشاق وللعمل المجهد، لا يرجع لقوة عضلاته، التي تقل بالتأكيد عن قوة عضلات حيوانات كثيرة، ليس لها ذات قوة تحمله، فالفضل في قوة التحمل لديه يرجع إلى البلادة، أو بعبارة أخرى ضعف تأثرة بالمؤثرات الخارجية.. العامل الثاني وهو الغباء مرتبط بالأول.. فالغباء لا يجعله يدرك ما يحدث حوله، فيعيش وسط العالم معزولاً، كأنه في عالم خاص، منقطع الصلة بكل ما حوله.

على ذات النمط هناك شعوب ترزح في ثباتها المقدس أو غير المقدس، ورغم ضغوط احتياجاتها، والضغوط التي تمارس عليها من العالم المتغير، فإن بلادة إحساسها وغباءها، يجعلها الأقل تأثراً بكل تلك العوامل، فلا تتقدم وتتغير إلا قليلاً.. هي تسير ببطء كسلحفاة لا تهتم بكل ما يحدث حولها من عدو وسباق رهيب، مكتفية بترديد أناشيد أو تراتيل الثبات المقدسة، ولما لا تفعل ذلك، وهي تحمل على ظهرها صدفة حجرية، تكاد تعزلها عن العالم عزلاً تاماً؟!!

الآن يحق لنا أن نتساءل، إن كان هناك من سبيل للشعوب المتوحدة مع quot;الجدار والحمارquot;، لكي تغادر كهوف ثباتها، وتخرج إلى الهواء الطلق، تؤثر وتتأثر، أم أنها ستبقى أسيرة قدرها، الذي لا تملك تغييراً لمجراه؟

[email protected]