هدوء نسبي عمل فني جميل لايخلو من إبداع، جماليته في قصص الحب التي عاندت قدرية الحرب ورضي ابطالها بالموت حبا بالحياة، في اطلالة وجوه عراقية نشتاقها جسدتها عائلة كاظم وشيرين وصديقهم سركون، في استعارات حزن دجلة وسفحها الغافي الذي ما عاد يجيب تحية الشاعر، وفي الود الموصول بين صحافيات وصحافيين يندر تحققه في وسط عربي يرتاب في كل ما يجمع بين المرأة والرجل.

كعراقية لم اتوقع الكثير من الحقائق في مسلسل عربي يروي احداث الحرب الاميركية على العراق وما اعقبها من كوارث، بعيون مراسلات ومراسلين عرب، لما تعودنا عليه من الطرح العربي المجتزأ والمتحيز في هذا الشأن، ولا اقصد هنا التوثيق لأن العمل روائيا كما قيل. غير اني اطمأنيت في البداية لما شاهدته من أجواء الخوف واضطهاد الصحافيين في نهايات عهد صدام (اعتقال ناهد لتطرقها الى فساد المسؤولين ومطاردة ناجي)، كما ان الاشارة الى وجود ما يسمى بالمجاهدين- الذين تحولوا الى إرهابيين- في بغداد قبل الحرب وصلة بعض الصحافيين بهم، حقيقة اكدها كاتب النص من خلال تعرف رشا (الصحافية الفلسطينية) الى أحدهم ولقاء شريف(الصحافي اللبناني) مع احدى الجماعات الارهابية، وكان معبرا مشهد المسلح العربي الملتحي الذي أشهر سلاحه بوجه مواطن مسالم، وتلك كانت بداية المأساة. ويحسب للكاتب توقفه عند معاناة العراقيين في عهد صدام (سنوات السجن التي قضاها كاظم وفقدانه لولديه ولصديقه سركون ) وتسليطه الضوء على أكاذيب وزير الاعلام وادعاءاته بدحر الاميركان، كل هذا جيد ولكن ماذا بعد ؟

تجاوز المؤلف لحظة تاريخية ومشهدا تناقلته جميع المحطات التلفزيونية في العالم، تمثل بتحطيم التمثال الهائل لصدام في التاسع من نيسان 2003 واندفاع الناس للمشاركة بوليمة التشفي، لاشك ان ذلك كان موجعا لمن ظنوا بصاحب النصب انه ناصرهم ثم خابت ظنونهم حين توارى وغابت بندقيته التي طالما لوح بها يوم كان يرفل في نعيم السلطة، ولكن ماذا اقول عن عادة العرب المتأصلة في تقديس هزائمهم وأصحابها.

إن أحداث المسلسل فيها استعجال لوقائع مازلنا نذكرها، لاتبرره الا الرغبة في استحضار حكم مسبق، يؤيد ذلك خطاب التهديد الذي أنذر عائلة كاظم بإخلاء الدار من السنة والاكراد ( سيروان شقيق زوجة كاظم وزوجته منال السنية). هنا يخطئ المؤلف مرتين : الاولى حين يجزم بأن الإرهاب بدأه الشيعة، وهذا ما تكذبه العمليات المروعة لمجرمي القاعدة من ذبح واغتصاب وتهجير وهؤلاء بالقطع ليسوا شيعة بل كانوا يحملون فتاوى تبشر من يقتل شيعيا أو ثلاثة أو خمسة-على اختلاف الروايات- بأن له الجنة. الثانية لانه متابع اختلطت عليه الاوراق، فالعنف الذي صدر من بعض الجماعات الشيعية ضد مواطنين سنة،بدأ بعد تفجير ضريح الإمامين في سامراء في العام 2006، وكان قبل ذلك موجها ضد الشيعة انفسهم في النجف وكربلاء والبصرة وغيرها.

وهناك موقف غريب مضحك في درجة افتعاليته وبعده عن الحقيقة، تجسده ابنة كاظم (دلشان او درشان) شابة جميلة تقف مذهولة يوم سقوط النظام، تقول لوالدها إنها أصبحت سبية حرب وقد قصت ضفائرها إسوة بما كانت تفعله نساء العرب قديما !!أي لعب بعقل المشاهد، وهي التي قضى ابوها أعواما طوالا في سجون صدام وقتل اخواها في حروبه وجن عمها عالم الفيزياء بفعل التعذيب ويغرق خالها الفنان في معزوفات الكآبة ويلازم الدار ؟ اليس الاشقاء العرب من اتباع القاعدة هم الذين اعتبروا بنات العراق سبايا كما فعلوا في الجزائر ومصر وافغانستان وغيرها؟ ثم ان كاظم يغلب عليه الحزن ويقول ان بغداد سقطت بسبب الخيانة، لكن المؤلف لم يشرح لنا أي خيانة تلك، أهي تعني القائد الذي لم يدافع عن وطنه وآثر السلامة في مخبأ تحت الارض أم كبار ظباطه الذين استأسدوا في ملحمة الكويت وقبلها خرم شهر المدينة العربية في ايران ؟
انتقل الى جوهر الموضوع الذي عالجه الكاتب السوري خالد خليفة وهو معاناة المراسلين وحقهم في نقل المعلومات، وأجده اسرف في المبالغة فأنا لم أسمع عن صحافيين عذبوا في سجون الاميركان كما حصل مع شريف وناجي، ولو افترضنا انهما تعرضا للاستجواب أو التضييق فلابد ان نتذكر ان الاول التقى بعناصر من القاعدة، الذين هددوا بحرق العراق وقد فعلوا، ومن الصعب جدا ان يوافق هؤلاء على استضافة صحافي دون ان يكونوا واثقين منه.

أما الثاني (بطل القصة) فواضح انه بعثي ووالد زوجته معارض سوري كان مقيما في بغداد ومقربا من النظام، كما انه يرتبط بشبكة علاقات مع البعثيين وشيوخ عشائر ورجال دين، بدا ذلك جليا من خلال محاولاته لإنقاذ حبيبته المراسلة ناهد التي اختطفها الإرهابيون، رأيناه كيف طلب مساعدة صديقه خالد المعروف لدى المسلحين الذين يحتلون الشوارع ويروعون المواطنين. والخاطفون كما صورهم المؤلفquot; شرفاءquot; بمعنى الشرف العربي أي متعففون فزعيمهم يحذرهم من الاغتصاب، وثانيا جميعهم عراقيون ولا أثرquot; للأشاوسquot; العرب، وهذا غير صحيح لما اسفرت عنه الادلة لاحقا من اعترافات الفاعلين وبيانات القاعدة. لكن الامر لايخلو من شرفاء حقيقين فالإرهابي الذي يساعد ناهد على الهروب هو إبن الموصل التي لم تسلم من عدوان مدعي الجهاد. نقطة أخرى لابد من التوقف عندها، أحد الخاطفين يمازح زميله ويقول ها نحن وكأننا مجاهدين فعلا، وهنا يجتهد المؤلف ليرفع شبهة الإجرام عن quot;المجاهدينquot;، ومعذرة ممن يفهم الجهاد على إنه نصرة الحق والمظلومين.

وأنا إذ أسجل هذه الملاحظات لاأخفي تعاطفي مع ناجي وقد أجاد دور العاشق المتفاني الذي يطلق لوعته لتقوده الى حيث يلقى ملهمته أو الى حافة الموت فيهنأ بأنه قطع نصف الطريق اليها.
واهتداءا بمجرى نهر الحب، سافرت درشان وسط عواصف الخطر لتلقى أنس(ابن الرمادي أو الفلوجة) وكانت هذه لفتة موفقة من الكاتب بأن الحب خير عابر للطوائف.

ومما يلاحظ على تقارير ناجي وناهد ورشا، إنها خلت من التفاصيل وغلب عليها الإنشاء، فبعد رسائلهم عن الحرب التي تضمنت اخبارا غير حقيقية (الحرب من بيت لبيت وشارع لشارع) بدأوا ينقلون وقائع التفجيرات والعمليات الانتحارية لكنهم لايقولوا من وراءها وكأن الجن قد خرجوا من باطن الارض وصرعوا العراقيين، هم لا يريدون تشخيص الفاعلين منquot; مجاهديquot; القاعدة الذين صورهم اغلب الإعلام العربي آنذاك باعتبارهم مقاومين بواسل، كرروا إن الضحايا مدنيون ابرياء ولكن بدون تشخيص أو كلمة إدانة واحدة، بل انهم لم يعلقوا وكأن الامر لايهمهم حين سمعوا عن اكتشاف مقابر جماعية، ابهذا البعد عن الإنصاف يكون حب العراق كما كانت تدعي ناهد، أويصرخ العرب بوجه الغزاة الاميركيين ولا يبالون إذ يرون أشقاءهم يجزون رقاب العراقيين ؟

وحتى لاننسى فإن بعض الصحافيين العرب الذين اقاموا في فندق فلسطين كانوا من الموالين لصدام، وقد رأينا كيف دخل quot;مجاهدونquot; الفندق وخرجوا مسرعين لأن المؤلف يحاول إقناعنا بأنهم لم يطلقوا النار على القوات الاميركية وإنها استهدفت الفندق دون سبب.
تجارة السلاح كانت من مواضيع المسلسل، جسدتها شخصية ابو صطام وهو الذي كان يطرب لأصوات الانفجارات واعداد القتلى ويرقص فرحا، بينما مساعده الشاب موسى (ابن كاظم) يحس بوخزة ضميرهش، ثم تنقلب الآية فيموت الاول ويصبح الثاني أكثر قسوة. يبرز ذكاء موسى وخبثه فيتصل بالسياسي البارز أياد مصطفى (صديق كاظم) ويبرم معه صفقة سلاح كبيرة ويطلب الانضمام الى حزبه، يعود لاهله الذين يعترضون على سلوكه فيبلغهم انه يعمل بالسياسة. المغزى من كل ذلك كما يبدو إن الكاتب يريد إقناعنا بأن المحرك الاساس للإرهاب هم الشيعة، فقد مات ابو صطام مبكرا ولم يكن يفهم كيف يجمع بين السياسة والقوة الغاشمة.
ولعلني اسهبت في موضوع هو وجعي فلا اطيق الإختصار ولكني وصلت النهاية الى حيث يجلس ذلك الساكن في دنيا الذهول، يردد شعرا للسياب : الشمس أجمل في بلادي والظلام - حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق،وكأنه يستعيد وجوده وهو يصغي لمعزوفة سيروان الحالم بنسمة فوق روابي كردستان، تتابعه زوجته منال بنظرة حزينة، ربما استذكرت اهلها في الموصل أو سامراء أو تكريت. أما كاظم فكان أسير مشهد االوداع المضني لصديقه سركون صاحب المطبعة، لمحة معبرة عن مصرع الثقافة، كاظم الذي تطلع الى عراق أجمل من غير صدام ولا أميريكيين، لكن محال ان يغيب الطغاة في أيامنا هذه دون أن يحصد الآمال. وأخيرا وجدت نفسي أحيي ناهد وناجي وهما يعبران نهر الفرات يلفهما الحنين والفرح بالنجاة، يقتطفان من إنشودة المطر بعض الخوف : وفي العراق الف أفعى تشرب الرحيق - من زهرة يرَبها الفرات بالندى، وبدا لي إن النهاية تصف حال العراق ومستقبله العائم فوق المياه الباكية، إنها الحياة جميلة رغم الجراح.