من مفكرة سفير عربي في اليابان

مع نهاية الحرب الباردة، أعتقد الغرب بأن تاريخ العالم قد انتهى بتفوق الفكر الرأسمالي الغربي، بعد أن فشل النظام الشيوعي، فحاول أن يستفيد من ديمقراطيته الرأسمالية، لخلق سوق عولمة حرة، ينافس فيها بمنتجاته وقوته الناعمة. واستغلت الفرصة شركاته العملاقة لتثبيت مواقعها في سوق العولمة الجديد، بدفع لوبياتها البرلمانية لإقرار تشريعات توفر لها أسواق لتصدير منتجاتها، وترفع الحماية عن المنتجات الوطنية المنافسة، وتضمن لها توفر الموارد الطبيعية والبشرية الرخيصة اللازمة لمنتجاتها. فناضلت من أجل الخصخصة وتحرير السوق من الأنظمة، بعذر نشر الرأسمالية الديمقراطية، وباستغلال ضغوط البنك الدولي والتهديدات العسكرية الغربية. وليتجنب الشرق المجابة ويستفيد من الاستثمارات الغربية وتسهيلات قروض البنك الدولي، قبل بالرأسمالية الغربية وبديمقراطيتها المستوردة، فحرر أنظمته الاقتصادية لتسهل تسويق وحماية منتجات الغرب، وتخلص من ضغوط المعارضة بتنفيذ شعار الانتخابات هي الحل، لتبدأ مسيرة تقليد إصلاحات الغرب الاجتماعية والاقتصادية. والسؤال لعزيزي القارئ: هل تسرع الشرق في تنفيذ شعار quot;الانتخابات هي الحلquot; قبل البدء بإصلاحاته الاقتصادية وتطوير ديمقراطية رأسمالية معاصرة تناسب قيمه وثقافته؟ وهل فعلا لقمة العيش أهم من صندوق الانتخابات؟ وهل يمكن أن تحقق الانتخابات أهدافها ببيع الموطنين أصواتهم للسياسيين التقليديين لتوفير لقمة العيش أو لرجال الدين السياسي أملا بالمقايضة للدخول للجنة؟ وهل الديمقراطية تربية ثقافة تعاون وتناغم واحترام الاختلاف، أم حروب إعلامية برلمانية، لتمزيق نسيج المجتمع بالطائفية، وفرض التطرف الفكري من خلال صندوق الانتخابات؟
تؤكد نظرية هرم الحاجيات للبروفيسور الأمريكي أبراهم ماسلو بأن هناك حاجيات بشرية مادية وذهنية ونفسية وروحية لخلق شخصية مجتمعية سوية. وتبدأ قاعدة هذا الهرم بحاجيات فيزيولوجية كالهواء والماء والغذاء، وحاجيات أمنية كالملبس والمسكن والأمان، وحاجيات إثبات الذات بتوفر العمل، ليشارك الإنسان في إنتاجية مجتمعه ويثبت به قدراته الإبداعية. ويمثل جسم هذا الهرم الحاجيات النفسية، والتي تشمل توفر بيئة العائلة والأصدقاء وزملاء المهنة والجيران وأهل الحي. ويشمل قمة هذا الهرم الحاجيات الذهنية الممثلة بالحرية العقلية، والتي يستطيع الإنسان من خلالها أن يعبر عما يجيش في أعماقه من أفكار بصدق وحكمة، ليشارك بتناغم في استقامة أخلاقيات سلوك المجتمع وتطوره وازدهاره. كما يضم هذا الهرم حاجيات الإنسان الروحية التي تسمو بالنفس البشرية، وتدرس الكون وخالقه لتتفهم دورها في الوجود. وقد طور الغرب فلسفة الرأسمالية الديمقراطية، كمحاولة لتوفير هذه الحاجيات، بالاعتماد على الفرد لتحقيق تنمية المجتمع وسعادته، بتوفير حرية التعبير، وضمانة التملك ومنافسة المتاجرة، والحماية من الفقر بشبكة الحماية التعليمية والصحية والتقاعدية. وربطت الحضارة الغربية بين الحرية والإنتاج وبين السعادة والإبداع، فكلما كان الإنسان حرا، حرية مسئولة، زاد توازن تفكيره وحكمة آراءه، ليستفيد من معرفته وخبراته في إنتاجية مبدعة، ليشارك في تنمية الوطن وسعادة شعبه.
وقد بدأت رأسمالية الغرب الديمقراطية مواجهة تحديات معقدة في القرن الواحد والعشرين بعد أن حول الميكروشب العالم لقرية عولمة صغيرة، وغزت تكنولوجية الانترنت عالم السياسة. فلم تعد تعتمد الشعوب على إعلام حكوماتها، كما صعبت على السياسيين الاختفاء وراء شفافية العولمة. ففتح اليو تيوب والبوك فيس والتووتر أبواب عالم جديد للنقاش وتبادل الأخبار، وسهلت تكنولوجية التلفون الرقمي إحصائيات استطلاعات الرأي والاستفتاءات الدقيقة والسريعة، والتي سلطت الأضواء على شعبية السياسيين، وتحدت أفكارهم وخططهم وسلوكهم. ويبرز ذلك بانخفاض شعبية أحزاب الغرب وبرلماناتها وحكوماتها بشكل غير مسبوق. وعبر ديفيد هوول، عضو مجلس اللوردات البريطاني والوزير السابق، عن ذلك بقوله: quot;الأحزاب السياسية التي خدمت كأعمدة للنظام الديمقراطي في الغرب خلال القرنين الماضيين، بدأت في رحلة انهيار مستمرة، لتذبل أعضائها، وتتحول سياساتها لمهزلة مضحكة ومحتقرة تقريبا في كل مكان. فلم يعد يحترم المواطنون لعب السياسيين الماكرة، وأصبحت أحزابهم وحكوماتهم نكرة مؤسفة. والتحدي الأكبر هو أن الحكومات الوطنية لم تعد في استطاعتها السيطرة على شؤون الدولة لتطفل العولمة في كل زاوية.quot; وبينما بدأت تفقد ديمقراطية الغرب الرأسمالية فاعليتها تقوم دول الشرق بتقليدها بعد أن غيرت تكنولوجية quot;التلي بوليتكسquot; آليات عملها.
وقد ناقشت الكاتبة بارت شيريدين شعار الانتخابات هي الحل، بمجلة النيوزويك الصادرة في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي، بقولها: quot;الصورة فعلا مؤثرة، الأصبع الخنصر القرمزية في العراق، صف النساء بالبرقع في انتخابات أفغانستان، وجهود المسئولين الدوليين للدفع بالديمقراطية بأسرع ما يمكن لبناء دول الشرق الأوسط، بينما ينتقد أكاديمي السياسة كل تلك الجهود بأنها ستدفع هذه الدول للوراء. فقد قام البروفيسور البريطاني بول كولير، أستاذ الاقتصاد بجامعة أكسفورد، بدراسة مجتمعات عانت سابقا من الصراعات، لمعرفة العوامل التي تؤدي للسلام. فأستنتج بأن الانتخابات في هذه الدول لم تساعد على تحقيق التناغم المجتمعي. فمع أن خطورة العنف تنخفض في فترة النشاطات الانتخابية بنسبة 5.2%، ولكنها تتصاعد في السنوات التالية لأكثر من الضعف وبنسبة 10.6%. والنتيجة هي أن الانتخابات تزيد من احتمال التطرف والعنف، لينعكس الوضع وترجع الصراعات الطائفية والقبلية من جديد، بسبب فرز الانتخابات الفائز عن الخاسر، ويكون الخاسر غير مستعد للمصالحة. فصناديق الانتخابات تعوض عن الصواريخ وطلقات الرصاص لفترة مؤقتة.quot;
وقد ناقش البروفيسور بول كولير، أحد خبراء الأمم المتحدة، في كتابه، مليار القاع، صراعات السلطة في دول العالم الثالث، فقال: quot;يعيش 80% من سكان العالم الثالث في بلدان تحسنت فيها أوضاعهم المعيشية، ويعيش عدة مليارات في بلدان أخذة في التطور وبسرعة شديدة. ولكن هناك مليار من البشر في ثمانية وخمسين دولة راكد اقتصادها، ويعيش شعوبها في أوضاع مستميتة. فقد سقطت هذه الدول في فخ الصراعات وقلة الموارد الطبيعية والحكومات السيئة لدول صغيرة ولجيران سيئين، ولا تستطيع التخلص منها. فحوالي 73% من هذا المليار، يعانون من حروب أهلية، و 29% منهم في دول مبتلية بفساد في سياسة مواردها الطبيعية، و 30% مبتلين بجيران سيئين، و 76% يعيشون في دول حكوماتها سيئة وسياساتها الاقتصادية متهرئة. ولن تساعد التجارة هذه الفئة، فدولها ليست منافسة في تصدير منتجاتها، كما أن قواها العاملة وخدماتها لا تستطيع تحدي كفاءة ورخص الصين والفيتنام، وتتوجه الاستثمارات الأجنبية نحو استغلال مواردها الطبيعية. وفي الحقيقة أن المشكلة معكوسة، فرؤوس أموال هذه الدول تهرب للخارج، فمثلا 40% من الثراء الأفريقي أستثمر في الخارج في عام 1990. ولم تؤدي المساعدات في تحسين الأوضاع، ولا الدعم الغير المشروط للميزانيات، ولا أموال النفط، كما لم يهتم المعارضون بفكرة إلغاء الديون عن هذه الدول.quot;
ويعتقد البروفيسور كولير بأن الأمم المتحدة يمكنها أن تلعب دورا مؤثرا، في تحسين تشريعات هذه الدول، وتوفير المفاضلة في التجارة العالمية، ومنع التعامل مع الرشوة والأموال المسروقة، وتطوير نظام حكم شفاف للتعامل مع الموارد الطبيعية، والاتفاق على ميثاق وطني مع شعوبها يوفر الديمقراطية وشفافية الميزانية وتشجيع الاستثمار. ويبدو بأن الدول الغنية مقتنعة بحاجتها لمنع تكرار تجربة الصومال المكلفة أمنيا وماليا، وهي مستعدة لتوقيع ميثاق حكم جيد معها لتساعدها بمعونات شفافة، وتسهيل صادراتها لكي تطور صناعاتها.
وقد بدأت في أفريقيا تجربة ديمقراطية جديدة بعد عقود طويلة من الحكومات المستبدة، فجلبت الشرعية والمحاسبة، ليتطور الاقتصاد وتنخفض نسب العنف. وأكدت الانتخابات النيجيرية في عام 2007، بان التخويف يقلل نسبة المشاركة في الانتخابات، وتكون الأحزاب الضعيفة أكثر عنفا في العادة، بينما تزداد ظاهرة شراء الأصوات وتزوير النتائج بين الأحزاب القوية. وينتقد البروفيسور محاولة الغرب فرض ديمقراطيته بالانتخابات بقوله: quot;لقد كان المجتمع الدولي ساذجا بتنكره للواقع وبتخيله بأن الأمن والمحاسبة بين الدول الغير متطورة ستتحقق بالانتخابات. فقد بينت التجربة بأن الديمقراطية ليست فقط انتخابات، كما أنه من السهولة سرقة الانتخابات إذا لم تكن هناك مراقبة ومحاسبة، بحرية الأعلام وتطبيق القانون بصرامة. وهناك حاجة لمعيار دولي لانتخابات نزيه مرتبطة بمحاسبة دولية من خلال الأمم المتحدة، وعلينا مساعدة الشجعان الذين يريدون الإصلاح. فقد تركنا الصومال خمسة عشر عاما في فوضى لان ثمانية عشر أمريكيا قتلوا، وتعلمنا من خبرتنا درسا خاطئا بأنه بعد تجربة الصومال يجب ألا نتدخل. لذلك تركنا ثمانية مائة ألف من البشر يقصبوا في رواندا، وبعدها قلبنا المعادلة في العراق، ولكي نؤدي الواجب علينا ألا نتطرف.quot;
وقد بينت دراسة البروفيسور انكي هوفلير، الأستاذ بجامعة أكسفورد، بأن التكلفة المالية للدول الساقطة، كالصومال، تتجاوز المائتين والسبعين مليار دولار سنويا، بالإضافة لتكلفة محاربة الإرهاب والمتاجرة بالمخدرات، كما أن الجزء الأكبر من التكلفة (87%) مرتبط بالدول المجاورة لانخفاض اقتصادياتها بسبب الفوضى السياسية. وعلى المجتمع الدولي التدخل في هذه الحالات، فقد يكون المحافظة على السلام مكلفا، ولكن ترك الوضع كما هو أكثر كلفة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيراجع الشرق إصلاحاته الديمقراطية ويعطي الأولوية لإصلاحاته الاقتصادية؟ وهل سيطور ديمقراطيته السياسية بالاعتماد على استطلاعات الرأي والاستفتاءات الالكترونية، لتقيم أداء رجال السياسية وقراراتهم الحكومية وتشريعاتهم البرلمانية؟ وهل سيمنع الدعم المالي الخاص الداخلي والخارجي للحملات الانتخابية ويحول مسئوليتها بعدالة على الدولة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان