(على جميع المسلمين تأييد هذه الثورة بكافة الأشكال) (أبو الأعلى المودودي) مجلة الدعوة العدد 19/ 1979، تعليقاً على الثورة الإيرانية.

كان لقيام الثورة الإيرانية تأثيره الحقيقي في خريطة الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط عامة، والمنطقة العربية بشكل خاص، فقد أصبح الحلم بدولة دينية قريب المنال، قابل للتحقق، فإيران قد أعطت نموذجاً واضحاً لكيان دولة معتمدة على الإسلام. ورغم اختلاف المذهب، وظلت أقرب المشاريع السياسية الدينية في هذه المرحلة وحتى الأن الأخوان المسلمين.
يقول (عباس خامه يار) ـ الباحث الإيراني ـ في كتابه (إيران والأخوان المسلمين) : quot;إن الذي يجمع بين كلا الاتجاهين هو الفكر الوحدوي المتجسد في هدف كلاهما تثبيت الإسلام كنظام للحكم، ونجاح إيران في تحقيق الهدف وسعي الإخوان لذلكquot;. فرغم كل الخلافات المذهبية بين كلا السياقين، ورغم انتماء الاخوان المسلمين الديني والمادي لبعض أنظمة الحكم ذات التوجه السني المتشدد، إلا أن هذا لم يمنع مطلقاً بناء جسور من العلاقات السياسية بين إيران والأخوان، ليس فقط في مصر، ولكن في العديد من البلدان العربية، فأخوان الأردن كانوا من أول المناصرين للثورة، والناشرين للفكر الثوري الخوميني على نطاق واسع، فالقضية سياسية في النهاية، ولكل الحق في السعي خلف مصالحه الخاصة حتى لو على حساب الدين ذاته.
فقد حاول الأخوان تحقيق أكبر استفادة ممكنة من النظام الديني في إيران، من خلال الصفقات السياسية والإقتصادية والعسكرية أحياناً، بين قيادات الاخوان الممثلة في أعلى مستويات الإرشاد، والدولة الإيرانية في قمة قيادتها، على مراحل التاريخ المختلفة صعوداً وهبوطاً، من خلال مبدأ التولي والتبري، فالأخوان المسلمين يعلمون جيداً أن التعامل مع الثورة الإيرانية ورجالاتها محفوفاً بمخاطر المصلحة الإيرانية، فتعاملوا بنفس المبدأ. فيؤيدون المواقف الإيرانية حينما تتفق ومصالحهم الخاصة، ويتبرأؤون لحظة تمثيل إيران خطر حقيقي على تواجد الاخوان خاصة على المستوى الأمني، أو يصمتون تماماً وينتظرون ردود الأفعال كما حدث في تصريحات الدكتور يوسف القرضاوي في الفترة الأخيره ضد إيران والمد الشيعي، فقد إلتزموا الصمت إلى أن تمت تسوية الأمور بين القرضاوي وإيران بتوسط آيات الله الشيعة ليس السنة أو الاخوان.
مواقف عديدة أثبت من خلالها كلا الطرفين ولاؤه لمشروعه الخاص ولكن مبدأ المصلحة هوالحاكم ليس أكثر، الأخطر من ذلك هو التواجد الشيعي في مصر، والأخوان مثلوا واسطة العقد في هذا أيضاً بإرادة كاملة أو بمصادفة تاريخية نادرة الحدوث، الخطر ليس في المذهب أو تعدد المذاهب والأديان في المجتمع المصري، فالطبيعة المصرية قادرة على تحويل كل هذا التعدد إلى وحدانية خاصة تنفرد بها، تندمج فيها المصرية القديمة والمسيحية والإسلامية، فرغم أن التعددية الإعتقادية التي يتميز بها المجتمع المصري على مدار تاريخه وآنيته، إلا أنه لا يقبل التعدد في بنيته العقلية الخاصة، فيوحد بين كل أشكال الإيمان والأديان في إطار له سمة شعبية صرفه، فيمجد السيدة العذراء، ويقبل ضريح الحسين في آن واحد.والتشيع ليس بغريب عن البيئة المصرية، ولكنه ليس هذا التشيع السياسي الذي يربط الدين بالدولة، والدولة في هذه الحالة هي إيران، أي أن الإنتماء الحقيقي للشيعة في مصر ليس للمجتمع المصري ولكن لعالم أخر لا يمت للوطن بصلة، والدليل على هذا، هو الدور العجيب للأخوان في مرحلة التشيع السياسي، فهل هي مجرد مصادفة أن كل قيادات التشيع في مصر، وهم معروفين ولا داعي لتعدادهم، كانوا أخوان مسلمين قبل أن يتركوا جماعة الأخوان ويتحولوا إلى التشيع؟! ألا بثير التساؤل توقيت هذا التحول الذي تم في مرحلة الثمانينيات من القرن المنقضي، أي بعد قيام الثورة الإيرانية؟!هل من الممكن أن يكون يتحول الفرد من النقيض لنقيض!، ويخرجون علينا فجأة ليؤكدوا أن الأخوان خدعة عمرهم، وأن الطريق القويم هو التشيع، شكل فاضح من صراع أخر للمصالح تعلموه جيداً في الفترة الأخوانية، ولا أدري هل لابد لكي أصبح شيعياً أن أمر بمرحلة الأخوان في البداية؟!
ولماذا تأتي الهداية على كبر، وبنفس الأسلوب؟!.
مما يؤكد أن التشيع المصري الآني هو تشيع سياسي لا أكثر، ويكفينا ما حدث من إيران في أزمة تنظيم حزب الله في مصر، فقد أصدر البرلمان الإيراني بياناً في فترة الحكومة السابقة لنجاد يندد بالموقف المصري تجاه حزب الله (15 / 4 / 2009)، وخرج علينا زعماء الشيعة المصرين يؤكدون أن هذه هي مرحلة تصفية التشيع في مصر، زاعمين أن الأمن المصري سوف يوجه لهم تهمة التخابر مع دولة أجنبية ـ وهي إيران بالطبع ـ وكأن كل ما يخص الشأن الشيعي في مصر يخص إيران مباشرة.
حقيقة أن التشيع كان دين الدولة المصرية في العهد الفاطمي، ولكن هذا لا يمثل أصل التشيع الحالي كما يحاول خطباء الشيعة تصديره لنا، فالتشيع الفاطمي ينتمي إلى المذهب الإسماعيلي (السبعي) الذي يعتنق فكرة إستمرار الإمامة، فهي لم تنقطع بالإمام الثاني عشر كما الشيعة الإمامية، فهذا خلاف قوي بين المذهبين منذ فترة الإمام السابع والخلاف على من يخلفه، فالدولة الفاطمية قد دخلت مصر آتية من المغرب، وأسست الجامع الأزهر للدعوة الإسماعيلية، بل أن العديد من مفكري إيران قد جاؤوا لمصر لتعلم المذهب ونشره، مثل المفكر (ناصر خسرو) الذي أمضى في مصر ما يقارب السبع سنوات ثم عاد ليقيم الدعوة الفكرية عن طريق أدبه وشعره، وكذلك (الحسن الصباح) مؤسس أهم حركات الإسلام السياسي في التاريخ الإسلامي المتمثلة في فرقة الحشاشين، تلك الفرقة التي هزت عروش الحكام في إيران بداية بالدولة السلجوقية في القرن الرابع الهجري، ولم تنته إلا بهجوم المغول، فقد جاء الصباح إلى مصر وتعلم فيها، ودُرب على التنظيم الحركي.
ولكن مع نهاية الدولة الفاطمية، وتحول مذهب الدولة إلى المذهب السني في فترة الحكم الأيوبي، لم يبق من التشيع الفاطمي إلا بعض العادات الشعبية، والقاهرة الفاطمية القديمة، فالأساس المذهبي والسياسي لا يمت بصلة نهائياً بالتشيع الحالي في مصر. وبالتالي فإن مزاعم زعماء الشيعة بجذور التشيع ليس له أساس من الصحة، فتشيعهم إمامي إثناعشري. حتى أن محافل العجم التي كانت تقام إلى وقت قريب احتفالاً بعاشوراء الحسين أمام الضريح الحسيني، في مرحلة الثلاثنيات والأربعينيات من القرن الماضي كانت تخص العجم وحدهم، أي الإيرانيين المقيمين في مصر في هذه الفترة، قبل أن تمنع تلك الطقوس في مرحلة لاحقة.
فالشيعة في مصر يعانون من فكرة الإنتماء، خاصة من وحد بين الدين السياسة، فقضيتي ليست مع أي مذهب أو دين، فلكل الحق في حرية العقيدة والإعتقاد، وليس لي الحق أو لغيري أن يُقيّم تجربة دينية لأي من كان، ولكن المشكلة الحقة تكمن في الواقع السياسي الذي تحول من أجله هؤلاء إلى التشيع، بما يضر بمصالح وطن المفترض أنه وطنهم، فإيران تدافع عن مصالحها في المنطقة وهذا من حقها بأي وسيلة كانت، حتى لو استغلت الدين في لعبة الترويج المذهبي السياسي، فلا يمكن الفصل المطلق بين الدين والسياسة في إيران، ولكن من المؤكد أن هؤلاء المتشيعين الجدد لم ينتموا للتشيع من واقع إيماني أو اعتقادي، ولكن من هوى سياسي، ومصالح فردية متنوعه تضر بمصالح المجتمع المصري الذي عانى ويظل يُعاني من المد الديني بمختلف أشكاله، بشكل غريب عنه ولا يمت له بصلة، مما يؤدي إلى تشظي الفكر الاجتماعي بين أهواء دينية وسياسية متعددة. مما يُنتج صراعات دينية ومذهبية في داخل المجتمع ذاته، خاصة وأن القضية تهاجم الإنتماء بشكل مباشر.
ويظل الأخوان والشيعة يثيرون العديد من القضايا والتساؤلات، خاصة في مساحة ارتباطهم بالدولة الإيرانية، وعمق الاستغلال المتبادل بين تلك الاطراف المتعددة، والأيام القادمة سوف تثبت لنا كما أثبت التاريخ، أن لكل من هؤلاء ملفه الخاص ومشروعه الذي يعمل لصالحه، الذي من المؤكد أنه لا يهدف صالح المجتمع أو الوطن.
فإيران دائماً ما تدعم الحركات الدينية السياسية في العالم العربي، بدءاً بحزب الله، وحماس والتي تمثل في جانب منها الشق العسكري للأخوان بعض التضيقات والصفقات الأمنية والسياسية في مصر، وكذلك الجماعات الغسلامية في الجزائر، حتى حركة فتح في فترة الصدامات العسكرية الأولى، بل أن العديد من نماذج الإسلام السياسي كان منتج إيراني خالص، وللأخوان نصيبهم من هذه الغنيمة السياسية، وما حركات التشيع القائمة في مصر وغيرها من البلدان إلا تمثيلاً أخر للتواجد الإيراني على المستوى المذهبي، بل أن الأمر قد يتعدى التشيع أو المتشعيين المصريين إلى الجماعات الصوفية، مستغلة الطابع المشترك بين التشيع والتصوف من حيث البناء النظري والتنظيمي، ولكن هذا يحتاج إلى كتابة أخرى، لطرح عناصر التشابه في البنية الفكرية لكلاهما، وعمق العلاقة بين التشيع السياسي والتصوف.

(أكاديمي مصري)

[email protected]