يطالعنا كتاب (عيون الاخبار) لابن قتيبة الدينوري المتوفي سنة (267) باب سمّاه بـ (باب العقل) أدرجه تحت كتاب أوسع ذلك هو الكتاب الذي اسماه (باب السؤدد)، وفيه يدرج بعض الاقوال في العقل، وهي لا تخرج في محصولها عن النزعة الوعظية والتحذيرية والسلوكية في هذه الحياة.
ينقل عن عمرو بن العاص إنّه يقول: (ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشرّ ولكنّه الذي يعرف خير الشّرين، وليس الو اصل من يصلْه ولكنّه الذي يصل من قطعه) / الجزء الاول ص 394 طبع دار الكتب العلمية /، وينقل عن زياد قوله: (ليس العاقل الذي يحتال للامر إذا وقع ولكنّه الّذي يحتال للأمر الاّ يقع فيه)/ ص 394/
هذه التعريفات أو التوصيفات للعقل بمثابة ثقافة كانت سائدة هناك، بل ربما لها علاقة بهوية الشخص السياسية والاجتماعية بشكل عام، فالمعروف عن عمرو بن العاص إنّه كان من الدهاة، ومن زياد حنكته السياسية والإدارية.
المغيرة بن شعبة يصف لنا عمر بن الخطاب بقوله: (كان أفضل من أن يَخدع وأعقل من أن يُخدع) /نفس الصفحة / وسواء كان عمر كذلك أو لم يكن كذلك، فإن بصمات عقل المغيرة واضحة في تقييمه لعمر من النا حية العقلية، فالعقل عند المغيرة يتصل بالحيلة وتدبير الامور، وكيفية التعامل مع الأخر، وهذا الآخر ليس في موقع النظر والموقف وليس آخر مجردا.
العقل هو سلوك معاملاتي إذ صح التعبير في كثير من التراث الأدبي للعرب، وبالتالي فإن (العقل يظهر بالمعاملة) / 396 /
العقد الفريد لابن عبد ربه المتوفي سنة (328) يطالعنا بذات العنوان (العقل) تحت باب كبير اسمّاه (كتاب الياقوتة الحمراء في العلم والأدب)، مما يعطي لمحة عن أن المصنف يشير إلى جانب يتجاوز النزعة الخلقية والسوكية في حديثه عن العقل، ولكن من قراءة ما كتبه لنا عن العقل نكتشف سيادة هذه النزعة بشكل واضح.
ينقل عن جماعة: (العاقل من يقي ماله بسلطانه، ونفسه بماله،ودينه بنفسه) / الجزء الثاني ص 96 / فالعقل هنا وهو محمول العاقل صفة احترا زية، أو نشاط احترازي، يتصل بالسلوك الخيِّر المحمود في زمانه، مقابل (الحمق) الذي يعني التصرف الهائج غير الممدوح في زمانه، وفي سياق ذلك ينقل لنا: (ويُقال: العاقل دائم المودّة، والأحمق سريع القطيعة) / ص 98 / وينقل لنا: (صديق كل امريء عقله، وعدوَّه جهله) /ص 98 /، وينقل لنا: (سئل أعرابي عن العقل متى يُعرف؟ قال: إذا نهاك عقلك عمّا لا ينبغي فانت عاقل) /ص 100 /، ينقل لنا المصنِّفْ كلاما لمعاوية يقول فيه: (العقل مكيال ثلثه فطنة وثلثاه تغافل)/ ص 95 / وليس من الصعوبة اكتشاف العلاقة بين عقل معاوية بحد ذاته وكلامه عن العقل فيما إذ صحّ هذا النقل عنه.
هذه التعريفات أو الصفات أو النعوت أو الانشطة تنتمي إلى دائرة السلوك المحمود والأخلاق السائدة، وليس إلى دائرة البحث الفلسفي والنفسي عن العقل، إنما هي تعريفات ومواصفات خطابية، تتصل بالافق العرفي عن الاخلاق والسلوك في زمنها.
نعثر في هذا السفر الأدبي على بعض بذور تحول في تعريف وبيان العقل، حيث نلتقي بمحاولات تمييز بين عقلين، العقل الغريزي والعقل التجربي، ولكن ليس بذلك المعنى الذي نعرفه اليوم من الابحاث الفلسفية والنفسية، فالتجربي في هذه الأقوال عبارة عن كسب معرفة اخلاقية وسلوكية في أكثر الأحيان
ينقل لنا ابن عبد ربه عن وائل بن سبحان قوله: (العقل بالتجارب،لان عقل الغريزة سلَّم إلى عقل التجربة) / ص 93 /
هنا نلمح تقسيما أوّليا للعقل، فهناك عقل غريزي فطري، وهناك عقل تجربي، والطريق إلى عقل التجربة هو ذاته عقل الغريزة، ولكن لم يتضح المراد هنا بعقل الغريزة، هل هي قابلية التفكير مثلا؟
هذا الأثر يعطي أولية لعقل التجربة، ولكن ماهي التجربة هنا؟ لا تعني بطبيعة الحال هذه الممارسات التي يجريها الملاحظ أو المجرب على مواد الاشياء في سياق فروض متصورة، ومراجعة لهذه الفروض، وامتحانها في مدى وفائها في التفسير والتعليل، هذه الدروس الحياتية التي يمر بها البشر، من حروب، وجوع، وعلاقات اجتماعية، هذه هي التجربة المقصود بها هنا، وهي بالطبع تعطي للعقل خبرة، فالعقل هنا في أغلب الاحيان يتصل بتجارب مباشرة، تفيد في تصميم المواقف، وتقي صاحبها الوقوع بالخطا والاشتباه مرة ثانية في حياته السلوكية العامة.
يستفيد بعضهم من مثل هذه المأثورات الواردة عن السلف بأن السلف كان قد سبق الآخرين في معرفة العقل التجربي، وأنهم كانوا يفهمون العقل أعمق من كونه ذلك الوازع الاخلاقي الوعظي، وهي محاولة في تصوري مبالغ فيها جدا.
قبل هذا كان ابن المقفّع (106- 142) في كتابيه(كليلة ودمنة) و(الادب الصغير والادب الكبير)، حيث نلتقي بمزيد من المأثورات حول العقل، فقد صدِّر كتابه بحديث طويل عن العاقل، وكل ما جاء به كلام حول واجبات العاقل تجاه نفسه وأصحابه وأقاربه، ومحيطه، أي النظر فيما يؤذيه ويسره، وفيما يجلب له اللذة والألم، وفيما فيه صلاحه وفساده، ويبين في الاثناء ما يفسد العقل بهذا المعنى.
يقول في بداية الأدب الصغير: (وللعقول سجيّات وغرائز بها تقبل الأدب، وبالأدب تنمى العقول وتزكو، فكما أنّ الحبّة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الارض بزهرتها وريعها ونمائها إلاّ بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها... كذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب، لا حول لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الادب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها) / ص 16 طبع دار الكتاب العربي، تحقيق إنعام فوال، سنة 2006 /
العقل في خطاب ابن المقفع هنا طبائع، لم يدخل مملكة الصنعة والتكلف، كذلك هو خلْق، وبالتالي، يحتاج إلى ما ينمِّي هذه الطبيعة ويزكو بها،وليس لذلك غير الأدب، ولكن ما المقصود بالادب هنا؟ في تصوري لا يعدو عالم الحكمة والموعظة وما هو على غرارهما، وليس المقصود الادب بالمعنى المعروف، لكنا نقرأ لابن المقفع كلاما أعمق عن العقل في كتابه (كليلة ودمنة)، فقد جاء فيه: (رأس العقل التمييز بين الكائن والممتنع، وحسن العزاء عمّا لا يُستطاع)/ نقلا عن معاني الاخبار ص 325 / مع ميلي إن الكائن والممتنع ينتميان إلى الاعمال الاخلاقية والاجتماعية وليس إلى الكونيات أو الموجودات بشكل عام.
العقل بهذا المعنى الاخلاقي كان سائدا في البيان العربي، كان معروفا لدى الحكماء من العرب، والشعراء العرب، وله شواهد كثيرة من شعرهم ونثرهم وخطبهم، فالعاقل هو الذي يمسك نفسه في الغضب، ولا يجري مع هواه، ويحسن التعامل مع الاشياء، خاصة النوازل والمصائب والحوادث الجسام.
لقد جاءت كلمة التجربة كثيرا في الخطاب العربي ولكن لا يشترط في كثير من الاستعمالات هذه الاشارة إلى التجربة بالمعنى العلمي، بل هي الخبرة المستحصلة من الحوادث الو اقعة، وبها يقوى العقل ويشتد، كما تفيد هذه النصوص، وهي ليست التجربة المُستحدًثة، بل التجربة الوا قعة، فنحن نقرا في هذا المجال: (واعلم أن العقل ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزيادة والنقصان، وقسم يقبلهما. فاما الأول فهو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء،وأمّا الثاني فهو العقل التجريبي وهو مكتسب،وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة يقال أن الشيخ أكمل عقلا وأتم دراية،وإن صاحب التجارب أكثر فهما وأرجح معرفة...) / المستطرف من كل فن مستضرف لابي الفتح الاشبهي ــ ت 850 ــ الجزء الاول ص 33، منشورات الشريف الرضي /
التجربة هنا هي ما يضيفه الواقع إلينا، وليس هي الواقع الذي نصنعه كي نكتشف ونعرف ونعلل ونفسر، ولكن الملاحظ في هذه النصوص تسميتها للتجربة بـ (العقل)، فتكون الخبرة الحاصلة من هذه التجارب الواقعة عبارة عن عقل، وهذا استعمال متطور، بل هو استعمال دقيق، فإن ما نكسبه من الخبر من خلال هذه التجارب تتحول إلى مادة أو بالاحرى إلى آلية تفكير، حتى لو كان التفكير في العواقب وحسب، إلاّ أنّه تفكير على كل حال، والتجارب هنا هي آليته.
ملاحظة مهمة أرجو الاشارة إليها، لم يكن العقل بهذا المعنى الاخلاقي الوعظي هو سنة عربية بحتة، بل هناك من الغربيين من يعطيه هذا المعنى، ولهذا الموضوع وقته الآتي إن شاء الله تعالى.