في البدء لا ضرر من التأكيد على الفروق الملحوظة عربيا، بين النظرة إلى تركيا والنظرة إلى إيران، وهو ما ينعكس في التعامل الإيجابي مع الأولى والترحيب بدورها وجهود الوساطة التي تقوم بها بين الحين والآخر، ولعل آخرها ما كان من محاولتها تخفيف التوتر بين العراق وسوريا، فقد شاركت تركيا الجامعةَ العربية تلك المساعي، وقد أعلن الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى أن المبادرة التركية للوساطة بين سوريا والعراق بمضمونها تلتقي في الشكل والمضمون مع التوجهات العربية بهذا الشأن, وأن التنسيق سيستمر.

وتجد تركيا نفسها مضطرة إلى الالتفات نحو العالم العربي, والتفاعل مع قضاياه؛ فما يجري في العراق المجاور لها، مثلا، شديد التأثير عليها، ولا سيما جزئية المسألة الكردية؛ إذ تحرص تركيا على قوة مركزية في العراق تكفل وحدته؛ بغية الحفاظ على وحدة الأرض والإقليم؛ وذلك خوفًا من انتقال النزعة الاستقلالية للأكراد في تركيا في حالة ما إذا حصل أكراد العراق على الاستقلال الرسمي.

ويأتي بعد ذلك، في سلم أهدافها، الأهداف الاقتصادية والتبادل التجاري، ولا سيما بعد أن تضاءل أملُها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ فكثفت من نشاطها وعلاقاتها بالمشرق العربي والإسلامي.

تمارس تركيا هذا الدور في ظروف مريحة دوليا، تصل حد الدعم والمساندة؛ فهي، بهذه المكانة والدور، تحظى باعتراف أمريكي، ولهذا لم يكن مستغربا أن كانت هي المحطة الأولى التي يلقي منها الرئيس الأمريكي أوباما خطابا يوجهه إلى العالم الإسلامي. كما لم يَحدث توسطها في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل بمعزل عن القبول الأمريكي.
ويمكن أن تكون تركيا، ولا سيما بعد شراكتها الاستراتيجية مع سوريا الدولة التي تُحدِث التوازن مع إيران في المنطقة، وهي في نفس الوقت لا تنظر إلى إيران النووية نظرة اطمئنان، وهي وإن لم ترَ خطورة في برنامج طهران النووي، إلا أنها تعارضه على اعتبار أنه سوف يُهدد توازن القوى. فضلاً عن زعزعة الاستقرار في المنطقة.

انعكاسات التقارب التركي السوري ودلالاته:

كانت العلاقات التركية السورية قد شهدت تحولا منذ استجابة سوريا لمطالب تركيا , أو تهديداتها بتسليم زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان عام 1998م.

وقد تفعَّلت العلاقة السورية التركية مع الوساطة التي قامت بها أنقرة بين سوريا وإسرائيل, ثم استمرت العلاقات بين البلدين في التحسن إلى أن تُوِّجت بتوقيع معاهدة الشراكة الاستراتيجية بينهما. واللافت أن تلك المعاهدة جاءت في ذروة التأزم العراقي السوري، وفي الوقت الذي حاولت فيه تركيا تخفيف ذلك التوتر, وكبح الانفعال الذي دفع بحكومة المالكي إلى المطالبة بمحاكمة دولية لمقاضاة من تؤويهم سوريا من مسؤولين بعثيين، تتهمهم الحكومة العراقية بالضلوع بجريمة الأربعاء الدامي.

واللافت أيضا أن هذه الانعطافة السورية نحو تركيا تأتي في وقت تشهد علاقة طهران مع الدول الغربية تصعيدا قد يفضي إلى عزل إيران دوليا.

ويحدث هذا التقارب السوري التركي في وقت تزداد فيه حكومة نتنياهو اليمينية في تصلبها وتعنت مواقفها من الاستيطان, ومن مجمل العملية السياسية بين العرب وإسرائيل. وفي هذا رسالة إلى الشعب الإسرائيلي وقواه السياسية مفادُها أن هذا النهج الذي تنتهجه حكومة نتنياهو يفضي إلى quot;تبريدquot; علاقتها بحلفاء تربطها بهم علاقات استراتيجية كتركيا, ويؤثر على جهودها في عزل سوريا.
وفي موازاة هذا الانعطاف السوري تتقدم العلاقات الأمريكية السورية، فقد قال مسؤول أميركي ودبلوماسيون إن الولايات المتحدة دعت نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد لزيارة واشنطن للمرة الأولى منذ خمسة أعوام في إطار جهود واشنطن لتحسين العلاقات مع سوريا.
ولا يخفى أن لهذا أثاره على أزمة الحكومة في لبنان، إذ تأمل واشنطن من دمشق بالإسهام إيجابيا في إنجاح مهمة الرئيس المكلف سعد الحريري.
وليس من المستبعد أن تعمل دمشق على ممارسة تأثيرها على الحركات الفلسطينية كحماس، في حال نضجت الظروف السياسية لعقد اتفاقات صلح مع إسرائيل.
ومن بوش وإدارته التي رفعت شعار الفوضى الخلاقة, وأوباما الذي يعمل على تهدئة الصراعات, وتخفيف الاحتقان, يتغير المشهد في المنطقة من إيران المتعاظمة في دورها ونفوذها إلى تركيا الأكثر قبولا والأقل صخبا.
[email protected]