كلما أرى ما يحيق ببلدي من غرائب فاقت حتى الاطر السوريالية وتخطّت حدود المعقول واللامعقول وأحار من الاوضاع الشاذة التي لاتريد ان تغادرنا ، أتذكر قول استاذنا المفكّر الكبير ادوارد سعيد بشأن بلاد مابين القهرين quot; لقد استحقّ العراقيون عبر تأريخهم العريق أن يلقّبوا بشعب الله المحتار quot; نعم ( المحتار ) وكم كان مصيبا هذا الرجل حينما صوّب سهمَه الكسَعيّ في لبّ المشكلات العراقية العصيّة عن الحلول
والاكثر غرابةً ؛ إن الله قد وهب ارض الرافدين كل نعيم الدنيا بدءا من الماء والارض الخضراء والعقول النيّرة التي شيدت حضارات موغلة في القدم ، علّمت العالم الرقيّ في التفكير ، ففي هذه البقعة برز الحرف المسماري فتعلّم العالم الكتابة والتدوين . وفي ثراه وثق القانون فارتقت المسلّة البابلية وتعلم الكون منها اسس تنظيم المعاملات بين الناس ورسم علاقة الفرد بالدولة وفُهِم َالعقابُ والثواب والجزاء وسُنّتْ انظمة القوانين الوضعية التي دونت فيها المواد وادرك كل فرد مسؤولياته وعرف الحقوق والواجبات وسار على هديِها يعمّر ويبني ويشيد ويفتح الطرق ويحتفل بمباهجه وينشر النور للبشرية التي بقيت ردحا طويلا في ظلام دامس لاتعرف سوى حياة الغاب ، بل وحتى الدول والممالك التي بلغت شأواً من التحضّر والارتقاء كالإغريق والروم والفرس والهنود كانت لغة السلاح والغزوات الدائمة هو ديدنها وخصامها الذي لايهدأ وانعكس ذلك النزاع والخصام على بلاد الرافدين التي خضعت طورا للاحتلال الفارسي وطورا اخر لهجمات الروم وغُزوات الاتراك والمغول والتتار ، ولكن تلك الغزوات لم تفتّ من عضد اهل العراق وبقوا ناضجي العقول يشيدون ويعمرون حتى ان الغازي اخذ منهم الكثير من الاعراف والنظم الراقية في معظم مجالات الانشطة الانسانية كالهندسة والعمران والأدب والعقائد ومنذ بدء التاريخ خرجت من رحم ملحمة كلكامش - باعتبارها اول ملحمة في التاريخ- كلُّ ملاحم الاغريق والرومان والفرس كالاوديسا والالياذة والشاهنامة . ومن بنود مسلة حمورابي انبثقت كل النظم القانونية التي رسّخها الانسان وهو يخطو في مدارج التحضر والتقدم الانساني ومن الحَرْف العراقي شاعت الكتابة واتسعت في اغلب ارجاء المعمورة
اسوق هذه المقدمة العاجلة واعجب كيف يؤول الحال المأساوي ببلد عريق مثل العراق الاخضر بنخيلهِ وبساتينهِ ، والريّان برافديه والحاذق بعقول أهلهِ وهو الذي تعلّم العالم منه أرقى النشاطات الانسانية !! ؛ فهل يعقل ان يأكل اهله ويقتات على ما تزرعه أيادي غيرهم ويكتسي مواطنوه من نسج آخرين كانوا الى وقت قريب شبه عراة . فما زال العراق غنيا بموارده في سطح الارض وباطنها عشبا دائما وذهَبا اسود وماء رقراقا ينساب في فراتيه فما الذي ينقصنا حتى نطلب ونستورد الماء لنرتوي من البوادي ونشتري الغذاء من الجار ومن الابعدين ؟؟!
ليس لدينا شك بان السبب الرئيس لها الوضع الغريب الاطوار هو اننا غيّبنا العقل العراقي المبدع . فمنهم من هاجر بعيدا عن ربوعه هرَبا من الاضطهاد والصراعات الحزبية المقيتة قاصدا الاشتات القصيّة التي احتضنته وقدّمت له كلّ مايريد ليبدع ويثمر حتى في بلادٍ غير بلاده واتّكلنا على الضعفاء والواهنين ووضعنا الرجل غير المناسب في الاماكن ومفاصل الدولة التي تريد عملا خلاّقا مبدعا فأصبحت مراعي الرافدين الخضراء مليئة بالدمن والبعر بدلا من السنابل الصفر والثمار اليانعة واضحى النفط لانشمّ منه سوى الزناخة والروائح الكريهة والمطامع والبغضاء فصار نقمة علينا يتهافت عليه وحوش المال والبورصة والشركات التي تغذي ماكينات السلاح ومصانع العدو والصديق ، وامام هذه الحال وددتُ صادقا لو حرَمنا الله من هذه النعمة التي يسمونها الذهب الاسود عسى ان نكون معتمدين على انفسنا ونجد البدائل الاخرى بإيقاظ العقل بلا زفرة النفط لاجل تحقيق الرفاهية واسعاد شعبنا وتفعيل الفكر العراقيّ الخلاّق مثل بعض الدول التي تتناوب على الفوز كل سنة لتكون في مصاف افضل الدول في العالم نزاهةً وتعليما ونظافةً ورقيّا اخلاقيا وارتفاعا في مستوى دخل الفرد وتضاؤلا في نسبة الجرائم مع انها خالية من الثروات النفطية وتعيش ظروفا مناخية قاسية قارسة البرد واقصد هنا الدول الاسكندنافية والتي خطت خطوات يحسد عليها في تحقيق اعلى رفاهية لمواطنيها ، اما النرويج ضمن تلك الدول فقد حباها الله نفطا وافرا فاستثمرتْه بتخطيط اقتصادي متقن وارتفع رصيد ميزانيتها ودخلها القومي بحيث اسعدت شعبها حتى ادّخرت نصيبا وحصة من اموال النفط للأجيال التي لم تولد بعد حيث حُفظ نصيبها من الموارد النفطية الحالية في ارصدة بنكية طويلة الامد حفاظا عليها ليتمتع بها الجيل اللاحق ، اما السويد والدانمارك وفنلندا (الشحيحة بالنفط ) فقد حققت ارقاما قياسية في النموّ والرخاء والضمان الاجتماعي لمواطنيها وتدني نسبة البطالة والتأمين الصحي العالي المستوى والكثير من الامتيازات التي يتمتع بها مواطنو هذه البلدان والمقيمين في اراضيها كما تشير الاحصائيات التي نطّلع عليها بين آنٍ وآخر
ولنا ايضا في اليابان الفقير بموارده النفطية والمعدنية والمُعرّض لغضب الطبيعة وزلازلها مثلٌ اخر في الارتقاء بمواطنيه الى مستويات تحلم بها البشرية بسبب الادارة الخلاّقة وحبّ العمل والعقل الراجح في ادارة الدولة ، فالعقل هو الثروة الكبرى الذي يفوق النفط غنىً اذا صاحبه الاخلاص للوطن وتطهّر من براثن الطمع والأنانية وخطا خطوات وثّابة لذرى النماء والتدبير المحكم والخلْق الابداعي في مجالات الانتاج منزّها من السرقة والاختلاس وكان همّه الاساس الوطن وأهله وليس الجيب وملء الارصدة في البنوك مثلما يفعل ساستنا الطامعون بلا حدود وكأني اراهم لو امتلكوا الارض لَنَظروا الى السماء يريدون سرقتها
وليس بعيدا عنّا دولة الامارات العربية المتحدة وأقول متمنياً ؛ ليت ساسة بلدي يقتدون بمشايخ وحكّام شقيقتنا الامارات العربية الذين بذلوا جهدا استثنائيا لتكون في قمة البلدان الهانئة السعيدة من خلال الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان / رئيس البلاد ونائبه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وبقية مواطني الامارات العربية فجعلوا شعبهم اسعد شعب في العالم ولاأظنّ ان هؤلاء المشايخ والحكّام قد تخرّجوا من اروقة ومعاهد الديمقراطية التي يتشدّق بها العالم اليوم وبالاخص عالمنا العربيّ الذي ذاق سوط الربيع العربي الموجع اللاسع أجسادنا بذريعة فرض الديمقراطية وربما تُحزّ رقابنا بسيفه الباتر في مُقبل الايام اذا بقينا نهلّل ترحيبا بديمقراطيتنا العرجاء ونعتلي ظهرها الواهن
أكاد ادعو الله ان يحرمنا من النفط لنعيد انشطة عقولنا فالحاجة والعوز يولّدان الابداع ويطهّران الاذهان والأرواح ، لانريد النفط لو صار نقمة علينا ومحط انظار الطامعين أيّا كانوا سواء من اترابنا او من اغرابنا
فالعقل الراجح الباني اثمن كثيرا من النفط الفاني
[email protected]