&
&
كتب جورج برنارد شو، "الرجل العاقل يكيف نفسه مع العالم، الرجل المتهور يصر على محاولاته لكي يتكيف العالم معه. لذلك، يعتمد تطور العالم على الرجل المتهور." ويستغل الرجل المتهور الفقر والجهل في المجتمع، ليلهب عواطف الفقراء ويوجههم نحو العنف والإرهاب، كما يستغل الإرهابي العنف، الغير قانوني واللاأخلاقي، ليحاول إجبار المجتمع على تحقيق أهدافه الايدولوجية. وطبعا يختلف الأرهاب عن النضال، فالنضال له أعرافه وقوانينه وأخلاقياته وانسانيته، بل ترتبط أهميته بالجهود الأخلاقية المخلصة لتطوير المجتمع سلميا، لخلق تنمية مستدامة. فلا يعتبر قتل الاطفال والنساء والمدنيين نضال، بل ما هي الا جريمة عنف فوضوية يحاسب عليها القانون، بل ينشأ أجيال انتقامية مريضة سيكولوجيا، ويؤدي لرد فعل مجنون. وفعلا نحن نعيش عالم الجنون الانتقامي اليوم. فقد قالها مهاتما غاندي من قبل: "العين بالعين خلق عالم أعمى." وها هو العالم الأعمى الذي نعيشه اليوم. وطبعا الظلم وغياب العدل يساعد الإرهابيين على إشعال نار الارهاب، والفقر هو الوقود الذي يستغله الإرهابيون لنشر احقادهم في المجتمعات المختلفة. وطبعا لكي نستطيع محاربة الارهاب يجب أن نستوعب اسبابه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ونعالجها بحكمة ونعمل للوقاية من تكرارها. "الحرب ضد الأرهاب" بالقضاء على قوانين حقوق الانسان، وغزو الدول، وقتل المدنين بالقنابل، يخلق الفوضى ويزيد الفقر، ويعدم الأمان، ويغذي الإرهاب، ويضعف الاقتصاد العالمي.
&
لقد عانى العالم العربي من غزو المغول واحتلال الامبراطورية العثمانية والاستعمار المعاصر. وحينما ترك الاستعمار المنطقة عسكريا، أستغل جميع وسائل الواقعية السياسية، "الريل بوليتيك"، ليضمن استمرارية المحافظة على مصالحه المستقلبية. فقد جزاء الوطن العربي لدويلات صغيرة، وبحدود مبهمة ليستمر الخلاف والانشقاق. كما استغل مأساة اليهود لزرع إسرائيل في قلب الامة العربية، لإبقاء المنطقة، بذكاء، في صراعات دائمة، لتستمر ضعيفة، فتقوي سلطته عليها، ويستنفذ من خيراتها وبرخص، ويمنعها من الصعود مرة أخرى، لكيلا تكون خطرا عليه. وقد كتب فون رون القائد البرويسي، وصديق الزعيم الألماني بسمارك، يقول: "لا أحد يأكل من شجرة اللاأخلاقيات بحصانة." وهذا ما يواجهه العالم اليوم. فهو يدفع ثمن أخلاقيات دبلوماسية القرن العشرين الواقعية. فالظلم وغياب المساواة والعدالة، والصراعات الدينية والطائفية والعرقية، شغل العالم العربي بما سميناه بالإرهاب، فكيف سنواجه هذه المعضلة ونتعامل معها بحكمة؟ فهل علينا فهم وتقييم تاريخ المنطقة ومعتقداته وثقافته، لمعرفة كيفية القضاء على الإرهاب؟ ألم يتحول، ما نسميه بالحرب على الإرهاب في نظر البعض، إلى حرب على مليار وثلث مسلم في العالم؟ فلو أردنا إنهاء معضلة الإرهاب العالمي هل يجب وقاية المجتمعات من معضلات الظلم والفساد وعدم المساواة والفقر والجهل؟ ألن يستمر الإرهاب في الازدهار إذا استمر الظلم والفقر، وخاصة بأن الفقر مترافق مع الجهل، والجهل خير وقود يستعمله الرجل المتهور لإشعال نار عواطف الحقد والعنف والانتقام في المجتمع؟
&
يقدر سكان العالم اليوم بحوالي السبعة مليارات، ونصف هؤلاء تقريبا يعيشون على دولارين فقط في اليوم. فتصور كيف من الممكن ان يعيشوا هؤلاء بكرامتهم مع عائلاتهم، ويلعبوا دورا في الانتاجية وبناء أقتصاد هذا العالم. ومن المتوقع بأن يرتفع سكان العالم لحوالي اثني عشرة مليار في عام 2100، وسيكون أحد عشرة مليارا منهم يقطنون في العالم الثالث. فهل من الممكن أن تتصور عزيزي القارئ، كم سيكون عدد الفقراء في العالم في ذلك الوقت؟ كما أن الفقر مشكلة أمنية خطيرة في العالم المتقدم أيضا. فمثلا هناك أكثر من تسعة وثلاثون مليون فقير في الولايات المتحدة، بالإضافة لوجود أربعين مليون مواطن بدون تأمين للرعاية الصحية، كما أن البطالة، بوابة الفقر، مشكلة هامة في بعض الدول الأوروبية، وخاصة بين المهاجرين. لذلك يحتاج العالم لخطط جادة للقضاء على الفقر، إذا كنا فعلا جادين في القضاء على الإرهاب، ويكرر الشعب الياباني المقولة: "أعطني سمكة تشبعني اليوم وتسرق كرامتي، علمني كيف أصطاد السمك ستشبعني مدى الحياة وتحافظ على كرامتي وانتاجيتي." فلا يوجد للمؤسسات الخيرية وجود في اليابان، كما ان الثقافة اليابانية علمت شعبها بعدم قبول الأموال الخيرية، بل على كل فرد العمل ليحقق ذاته ويوفر حاجياته، في الوقت الذي يلعب بعمله وانتاجيته دورا في خلق تنمية مستدامه. ولأوضح هذه الفلسفة ليسمح لي عزيزي القارئ ان أعرج على موضوع آخر. يلاحظ السواح الزائرين لليابان بأن من يضيع منه شيء سيصله لمنزله، فسنويا تستلم الشرطة اليابانية المليارات من الأموال الضائعة، وتستطيع ان توصل ثلثي هذه الاموال لأصحابها، بينما يبقى الثلث بدون ان يطالب به أحد. وحسب القانون الياباني، على الشرطة ان ترجع باقي هذه الاموال الضائعة التي لم يطالب بها أحد للأشخاص الذين وجدوها، وحينما تراجع الشرطة هؤلاء الأشخاص لكي يقبلوا هذ الأموال، فالجميع وبدون استثناء يرفض قبول هذه الاموال لاعتقادهم بانها ليست من حقهم. فلذلك خلقت الثقافة اليابانية اخلاقيات الاعتماد على النفس، ولعب دورا في الانتاجية والتنمية المستدامة، ورفض قبول ثقافة العمل الخيري، بل توجه هذه الاموال في الأبحاث العلمية والطبية، مثلا في كشف علاجات جديدة للسرطانات.
&
فلو كنا فعلا جادين في القضاء على الفقر، يجب أن نمكن الفقراء لكي يتعاملوا مع فقرهم. ولتمكين الفقراء، سيحتاجون للتعليم والتدريب، ولتسليفهم قروض بسيطة، ومساعدتهم لخلق تجارتهم الصغيرة. فمثلا بروفسور الاقتصاد البنجلادشي، محمد يونس، الحائز على جائزة النوبل للسلام، قد مكن الفقراء من معالجة فقرهم من خلال توجيههم، وتوفير قروض صغيرة لتطوير تجارتهم الصغيرة، ولذلك بدأت تتوجه بنجلادش للتنمية المستدامة، وقد تكون مثلا يتحدى به مع قبول عام 2050. كما أستطاع أكثر من مائة وخمسين مليون فقير في العالم التخلص من فقرهم من خلال القروض الصغيرة التي طوروا بها تجارتهم. الجدير بالذكر بأن هناك حوالي ستة مليون شركة صغيرة في اليابان. ،ويكرر البعض بأن سياسة الحماية الاقتصادية غير مقبولة في النظام الرأسمالي وفي اقتصاد سوق العولمة، فلنراجع ما كتبه المحلل السياسي الاقتصادي الاوربي وليم بابف، قبل عقد من الزمن، في جريدة اليابان تايمز، تحت عنوان، زيادة تباين الدخل، محاكمة العولمة، يقول: "لقد اعترفوا مؤخرا في مؤتمر عالمي بالحقيقة الآن، بأن عولمة السوق تسببت في دمار كبير حينما أستمع الرئيس الاسبق بل كلنتون لأصدقائه في الول ستريت وقرر تحرير الاقتصاد الدولي من الانظمة والقوانين." كما نشرت جريدة الول ستريت في نفس الوقت، بعنوان، نتائج غير متوقعة زادت العولمة درجة التباين في الدخل، تقول فيه: "بأنه من المعروف بأن ادم سميث، فيلسوف الرأسمالية، قد أكد أهمية السلطة الاخلاقية للدولة على الاقتصاد. وكل ما يقال عن عولمة السوق بحرية، وبدون قيود، هي نظرية لا ترتبط بالرأسمالية، بل مرتبطة بفلسفة الجشع. فالعالم، حتى الآن فيه الموارد الكافية لإشباع حاجيات سكانه، ولكن لا يستطيع إشباع جشعهم." كما حذر الاقتصادي ديفيد ريكاردو، بأن سوق العولمة الحرة للقوى العاملة المتوفرة، ستؤدي لخفض الرواتب لحد كبير، مما لن يكفي إلا للبقاء، لا أكثر. وسيكون لذلك علاقة مضطردة مع الثورة الاجتماعية، وتزايد التطرف والعنف في المجتمعات الفقيرة، بل بدأت تبرز كنوع من الشعبوية في المجتمعات الغربية. وقد أكد الاقتصادي العالمي، بول فيتوسي، بأن هناك طريقتين لتتعامل الحكومات مع الخلل الناتج من العولمة، وهي الحماية الاقتصادية، وتوفر الخدمات الاجتماعية للمواطنين. فحماية المصانع والشركات، والتي هي مصدر الثروة في البلاد، ومن خلال الانظمة والقوانين، للوقاية من القلق المترافق بالاستثمار، وتزايد القوى العاملة، وخاصة مع تطورات الذكاء الآلي القادمة. كما سيحتاج لحماية القوى العاملة من البطالة وانخفاظ الاجور، فبدونها سيقاوم الإصلاح وتقل الانتاجيه. وطبعا كل ذلك مهم جدا للمحافظة على الترابط الاجتماعي. وقد أثبت التاريخ في العالم الثالث، بأن النمو الاقتصادي مرتبط بدرجة الحماية التجارية والمالية. وقد أكد فتوسي بأن تحرر السوق ستكون كارثة لاقتصاديات العالم النامي. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل من واجب العالم أن يحول سياسة الحرب على الإرهاب فقط، لسياسة الحرب على الفقر، وقاية، والحرب على الإرهاب، علاجا؟ وهل سنحتاج "لرأسمالية عولمة" مسئوله اجتماعيا لكي نحقق ذلك؟ ولنا لقاء.
د. خليل حسن، كاتب بحريني
طوكيو
&