إيلاف من بيروت: نشرت صحيفة النهار اللبنانية مقالاً بقلم أمل كلوني تتناول فيه مشاعرها تجاه ما يحدث في لبنان فيما يلي ترجمة له:&
يومَ أبصرتُ النور في لبنان، اختار والداي أن يطلقا عليّ اسم "أمل"، فهما كانا يتطلعان إلى غدٍ أفضل في وطنهما الذي مزّقته الحرب. كان ذلك قبل أكثر من أربعة عقود، واليوم، تراودني آمال كبيرة بمستقبل لبنان، مسقط رأسي، آمالٌ لم يسبق أن شعرت بها يوماً.

والسبب هو أنني أرى، لأول مرة، اللبنانيين يرصّون صفوفهم حول فكرة واحدة، لا حول دينٍ أو حزب أو مذهب. أرى شعباً موحّداً يتبنّى رؤية مشتركة من أجل التغيير قوامها الحفاظ على الكرامة البشرية وتحقيق المساواة في الفرص. أشعر بالحماسة الشديدة في صوت والدي الذي يكنّ حباً عميقاً لبلاده وهو ما يلمسه جميع عارفيه. وأشعر بالتأثّر في صوت شقيقي وأنسبائي وأصدقائي الذين نزلوا إلى الشارع ويردّدون أن "لبنان بأسره في الشارع".

يعيش اللبنانيون، منذ وقت طويل جداً، تحت وطأة منظومة تساهم في تعميق الخلافات بينهم. لقد خذلهم قادتهم الذين استغلوا المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة. وفشلت الحكومات، الواحدة تلو الأخرى، في تأمين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه النقية والبنى التحتية اللائقة والشوارع النظيفة. لطالما انتظر اللبنانيون التغيير الذي تأخّر كثيراً.

زرتُ لبنان مرات عدّة. ولكن زيارة واحدة تكفي ليلاحظ المرء الهوّة العميقة بين أداء الحكومة والطاقات التي تتمتع بها البلاد. لقد أوردت مجلة "الإيكونوميست" في مقال نُشِر منذ فترة وجيزة أن لبنان "أشبه بكاريكاتور عن الحوكمة السيئة"؛ والاقتصاد اللبناني على حافة الانهيار. كان الوضع ليختلف كثيراً لو استُخدِمت موارد البلاد على نحوٍ صحيح، ولو أُطلِق العنان لكفاءات اللبنانيين ومهاراتهم. لا يطلب اللبنانيون مساعدةً من أحد، فكل ما يريدونه هو إفساح المجال أمامهم كي تتحرر قدراتهم وطاقاتهم.

وهذا ينطبق على عدد كبير من البلدان التي يأخذ قادتها الكثير ولا يعطون إلا القليل في المقابل. ولكن في لبنان، يقترن الفساد أيضاً مع منظومة طائفية لطالما تسببت بتعطيل نمو البلاد وتطورها. وقد سمحت هذه المنظومة لمجرمي الحرب بالارتقاء وتعزيز مكانتهم بدلاً من أن يمثلوا أمام المحكمة. هذا فضلاً عن قمعها للنساء اللبنانيات اللواتي يُحدّد قضاةٌ روحيون حقوقهن الأساسية بدلاً من أن يكون هذا الأمر من صلاحية محاكم مستقلة. ودفعت هذه المنظومة بالشباب الأكثر طموحاً إلى الهجرة إلى الخارج سعياً وراء تحقيق أحلامهم.

قبل ثلاثة عشر عاماً، تركتُ عملي في نيويورك وذهبت للإقامة في لبنان لأول مرة منذ كنت طفلة صغيرة، وكان ذلك على خلفية إنشاء الأمم المتحدة لجنة للتحقيق في الاعتداءات الإرهابية التي أسفرت عن مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق وقادة ديمقراطيين آخرين بينهم رئيس تحرير هذه الصحيفة. لقد رأيتُ فرصةً فريدة أمام لبنان للتخلص من منظومة درجت العادة فيها على اغتيال الخصوم السياسيين من دون أن يلقى الفاعلون أي عقاب. وهكذا أقمتُ طوال عامَين في مجمّع تابع للأمم المتحدة في منطقة جبلية مرتفعة، وكنت أتنقّل في سيارات مصفّحة وتحت حراسة أمنية مشدّدة. واعتبرتٌ آنذاك أن الأمر يستحق العناء في حال تمكّنا من المساهمة في فرض سيادة القانون. وقد نجحنا، من خلال عملنا، في الدفع نحو الشروع في إجراءات المحاكمة. ولكنني أصبحت أدرك الآن أن التغيير المنهجي والفعلي ينطلق فقط من الداخل.

لهذا ما يجري اليوم يكتسي أهمية فائقة. ها هم اللبنانيون يعلنون بأعلى صوتهم، في جبهة موحّدة، أنهم لن يقبلوا بعد الآن بأن يكونوا ضحية التلاعب والخداع والأكاذيب. لن يسمحوا للزعماء الفئويين بأن يؤلّبوا فريقاً على آخر استناداً إلى مزاعم واهية. وعندما يُقال لهم الآن أن الاحتجاجات تجري بتحريض من قوى خارجية، يرفضون أن يُصدّقوا. فهم يعلمون تماماً أن هذا الحراك هو حراكهم.

أراقب بفخر واعتزاز الشباب اللبناني وهو يقود زمام المبادرة لبناء وطنٍ أفضل؛ والمرأة تُظهر تصميمها على الدفع نحو التغيير والعمل من أجله. تصدح أصوات اللبنانيين بالهتافات والأناشيد، ويرقصون معاً ويشبكون الأيادي. وهم لا ينتمون إلى جماعة واحدة ولا حزب واحد ولا مذهب واحد؛ بل إنهم مواطنون لبنانيون يقفون كتفاً إلى كتف ليردّدوا معاً، طفح الكيل.

لن تكون الأيام المقبلة سهلة، وآمل حقاً بألا تعمل قوى العنف من جديد على تحويل مسار التاريخ في لبنان. يستحق الشعب اللبناني مصيراً أفضل. وأعتقد أننا نعيش لحظة جميلة في مخاض بلدٍ جميل. العودة إلى الوراء ليست خياراً.

ترجمة نسرين ناضر عن المقال الأصلي المنشور بالإنكليزية.