إيلاف من بيروت: في ظل هذه الحالة العامة غير المسبوقة من الإغلاق وتوقف النشاط الثقافي، لجأت غالبية المؤسسات الفنية حول العالم إلى الفضاء الرقمي كوسيلة بديلة وآمنة، وتتيح قدراً من التواصل مع الجمهور. مؤسسة الشارقة للفنون كانت إحدى هذه المؤسسات التي سارعت نحو الفضاء الرقمي، حين أطلقت منصتها الرقمية الجديدة عبر موقعها الإلكتروني والمخصصة لعرض الأفلام التجريبية وأشرطة الفيديو من مقتنياتها. بدأت المؤسسة هذه العروض بفيلم "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة"، الذي أتيح للمشاهدة عبر المنصة الرقمية على مدار يومين. العمل الذي أخرجته وكتبت له السيناريو المخرجة اللبنانية رانيا اسطفان يقف على مسافة واحدة بين كونه عملاً فنياً وفيلماً وثائقياً، بل يمكن اعتباره فيلماً روائياً كذلك، كونه يقدم سرداً بصرياً لسيرة سعاد حسني السينمائية استناداً إلى مشاهد الأفلام التي جمعتها مع معظم نجوم السينما المصرية منذ بداية الستينيات من القرن الماضي.

أكثر من 80 فيلماً

"اختفاءات سعاد حسني الثلاثة" هو عمل يعتمد على تفكيك وإعادة تركيب لمشاهد سينمائية جُمعت من أكثر من ثمانين فيلماً شاركت فيها سعاد حسني بالبطولة عبر مسيرتها الفنية الممتدة من نهاية الخمسينيات وحتى رحيلها المأسوي في عام 2001. تقدم هذه المشاهد المُعاد تجميعها سجلاً بصرياً للتحولات التي مرت بها صورة النجمة المصرية على شاشة السينما، وهو سجل بصري لا يخص سيرة سعاد حسني السينمائية فقط، بل يتعلق كذلك بتاريخ السينما المصرية كأحد أبرز مراكز الصناعة السينمائية العربية. خلال هذه المسيرة الفنية للنجمة الراحلة التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً شهدت السينما المصرية العديد من التغيرات التي طالت المحتوى السينمائي تقنياً وفنياً، وكذلك على مستوى الطرح والمعالجة للكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية المُلحة، وكانت سعاد حسني بلا شك جزءاً من هذا التحول. حملت صورة سعاد حسني إلى المخيلة السينمائية المصرية والعربية العديد من الأوجه، فقد جسدت صورة الفتاة العصرية المُتحررة والثائرة على التقاليد، والطالبة الجامعية التي تنخرط رغماً عنها في العمل السياسي، كما جسدت أيضاً صورة المرأة القوية الكادحة والراقصة وفتاة الليل والمريضة النفسية، وغيرها من الشخصيات والأدوار التي قدمتها على شاشة السينما بكل براعة وأداء مميز تُعززه جاذبية خاصة تمتعت بها النجمة الراحلة. يمتزج كل ذلك بإطار من الغموض والأسى غلف سيرتها ووضع نهاية مفاجئة وحزينة لحياتها.

مونتاج خرج بنسق بصري شبه مترابط

3 فترات مرت بها سعاد حسني تعكس هذه التحولات في حياتها، عالجها الفيلم عبر شريط ممتد من المشاهد والصور السينمائية، بداية من فترة الستينيات إلى مرحلة الثمانينيات، مروراً بحقبة السبعينيات التي شهدت اكتمال النضج الفني لسعاد حسني، وهي الفترة نفسها التي تزخر بالعديد من العلامات السينمائية البارزة، ليس في تاريخها الفني فقط، بل في تاريخ السينما المصرية عامة، فقد شهدت هذه الفترة أفلاماً مثل "غروب وشروق"، و"أميرة حبي أنا"، و"خلي بالك من زوزو"، و"الكرنك"، و"على من نطلق الرصاص؟"، و"شفيقة ومتولي"، وهي أفلام ذات أبعاد اجتماعية وسياسية، وصُنف بعضها ضمن قائمة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية. من طريق هذه المشاهد المُجّمعة تسرد سعاد حسني سيرتها ومشوارها الفني أمام الكاميرا. نجحت المخرجة في التوليف بين المشاهد والحوار وفق عملية مونتاج دقيقة لتخرج في النهاية بنسق بصري شبه مترابط ومحتوى سردي قريب الشبه بسيرة سعاد حسني، وهو محتوى يسلط الضوء على ذلك الحضور اللافت، والأنثوية الباذخة، وطاقة المرح التي كانت تتمتع بها، جنباً إلى جنب مع مقدرة على بث الأسى والشجن.

يشير عنوان الفيلم إلى ثلاثة اختفاءات مرت بها النجمة الراحلة عبر مشوارها الفني، الأولى حين انقطعت عن التمثيل لمدة عشر سنوات بعد آخر أفلامها "الراعي والنساء" الذي شاركها فيه البطولة النجم أحمد زكي عام 1991، ثم اختفاؤها بالموت في عام 2001. أما الاختفاء الثالث الذي يشير إليه الفيلم فهو اختفاء أفلامها من التداول الشعبي عبر تقنية VHS لأجهزة الفيديو، وهي التقنية التي أعطت للفيلم السينمائي فرصة الانتشار الجماهيري الواسع، قبل التطور والتوسع في وسائل العرض الرقمي، وصادف أن تزامن اختفاء هذه التقنية مع رحيل سعاد حسني. وقد اعتمدت مخرجة الفيلم في جمعها للمشاهد السينمائية المختارة على هذه التقنية في تأكيد على أجواء الحنين إلى الماضي التي تُخيم على طبيعة المعالجة الفنية للعمل ككل. "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة" يقدم لمحة مختصرة لعصر سينمائي مصري كان غنياً ومنفتحاً، ولفنانة جسدت المرأة العربية العصرية في تناقضاتها بين حقبتي الستينيات والتسعينيات.

المصدر: اندبندنت عربية