بجانب صاروخ سبايس أكس، وصخرة من القمر جلبتها إحدى مهمات وكالة ناسا، يعرض الجناح الأمريكي في "إكسبو 2020 دبي" أحد أهم مقتنيات مكتبة الكونغرس: نسخة توماس جفرسون المترجمة من القرآن.

يتألف القرآن المعروض من مجلدين، وهو الطبعة الثانية لترجمة المستشرق البريطاني جورج سيل، الصادرة في لندن عام 1764. ويقول مؤرخون إن جفرسون اقتناه حين كان طالب حقوق في الثانية والعشرين من عمره.

يعرض قرآن جفرسون في الجناح الأمريكي لإكسبو 2020، لمدة ثلاثة أشهر فقط، وذلك لقيمته وندرته، إذ أنها المرة الأولى التي يغادر فيها الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر.

ونقل القرآن إلى دبي في صندوق خشبي مجهز للنقل الآمن، "إذ أرفق فيه جهاز استشعار للاهتزازات ومراقبة التغيرات في درجة الحرارة، ورافقه على طول الطريق موظفو حفظ المكتبات ورجال أمن، وشركة شحن دولية متخصصة في التعامل مع نقل الأدوات النادرة"، بحسب البيان الصحافي الصادر عن إكسبو 2020 دبي.

وبمناسبة عرضه في دبي، يعود قرآن جفرسون إلى الضوء إعلامياً، ولكنها ليست المرة الأولى التي يلفت فيها الكتاب النادر أنظار العالم.

فحين انتخبت الأمريكية من أصل فلسطيني رشيدة طليب نائبة في الكونغرس عام 2018، أدت اليمين على قرآن جيفرسون. وكذلك الأمر بالنسبة لكيث أليسون أول مسلم ينتخب في الكونغرس عام 2006.

فما قصة هذا القرآن؟ وما أهميته التاريخية؟ ولماذا اقتناه توماس جفرسون ثالث رؤساء الولايات المتحدة، وكاتب إعلان استقلالها؟

جفرسون وإرثه الإشكالي

قبل أيام، احتلّ اسم توماس جفرسون (1743-1826) عناوين الأخبار في الولايات المتحدة، بعد الإعلان عن إزالة نصب تذكاري له من مقر مجلس مدينة نيويورك التشريعي، بناء على طلب تجمع المشرعين السود، واللاتينيين، والآسيويين، نظراً لتاريخه في اقتناء الرقيق.

ويعدّ موقف جفرسون من العبودية محيراً بالنسبة لبعض المراجع التاريخية، فصحيح أنه الكاتب الرئيسي لوثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي (1776)، التي ضمّنها القول إن "كل الناس يخلقون متساوين"، إلا أنه امتلك نحو 600 عبداً خلال حياته.

تولّى جفرسون الرئاسة بين عامي 1801 و1809 ويعتقد أنه كان مهتماً ببناء علاقات إيجابية مع العالم الإسلامي، لأسباب عدّة، منها أن المغرب كان أول من يعترف باستقلال الولايات المتحدة عام 1777.

وتشير مراجع إلى أن جفرسون كان يستقبل ضيوفه من الدبلوماسيين المسلمين في وقت مناسب للإفطار خلال شهر رمضان.

بحسب المؤرخة دنيز سبلبرغ من جامعة تكساس في أوستن، مؤلفة كتاب "قرآن توماس جفرسون- الإسلام والمؤسسون"، فإنّ جفرسون اقتنى القرآن في سنة 1765، أي قبل 11 عاماً من كتابته إعلان الاستقلال.

وتقول سبلبرغ في مقابلة صحافية قديمة: "بالرغم من أنه لم يكن دوماً يدرك الإسلام بطريقة صحيحة خلال حياته السياسية، لكنه نادى بالحقوق السياسية للمسلمين، وكان لديه اهتمام معلن بالإسلام كديانة وبالقرآن ككتاب قانون، حسب فهم معظم المسيحيين في الغرب للقرآن في ذلك الحين".

ومن المرجح أن جفرسون اهتم بالقرآن من باب بناء علاقات دبلوماسية، وفهم العادات والحياة في الدولة العثمانية وفي شمال إفريقيا.

ما أهمية هذه الترجمة؟

بحسب الموقع الرسمي لمكتبة الكونغرس، كان قرآن جفرسون حجر الأساس لبناء مجموعتها القرآنية، وأول إضافة إلى مقتنياتها من المصاحف بلغات وطبعات مختلفة.

طبع الكتاب المؤلف من مجلدين في لندن عام 1764، وهو الطبعة الثانية من ترجمة وتقديم المستشرق والمحامي الإنجليزي جورج سيل (1697-1736).

ترجم سيل القرآن عام 1734، وتعدّ هذه الترجمة ترجمة لمعاني القرآن، وليس ترجمة حرفية للآيات، ويقال إن الفيلسوف الفرنسي فولتير استند إليها في مقالاته عن الإسلام والنبي محمد.

وبحسب موقع "هيستوري"، فإن ترجمة سيل كانت الترجمة الأولى المباشرة للقرآن من العربية إلى الإنجليزية، إذ أن النسخة الإنجليزية الوحيدة الأخرى كانت ترجمة عن الفرنسية نشرت عام 1649. وبقيت ترجمة سيل الترجمة الإنجليزية الوحيدة للقرآن حتى أواخر القرن التاسع عشر.

ووفقاً لمجلة معهد سميثسونيان، فإن أول ذكر لكتابة آيات من القرآن بالعربية في أمريكا، يعود إلى رجل يدعى عمر بن سعيد، جلب عبداً من السنغال إلى تشارسلتون في ساوث كارولاينا عام 1807. وسجن عمر، وفي زنزانته كان يصلي بالعربية ويكتب آيات من القرآن بالعربية على حائط زنزانته بالفحم والطبشور.

وكتب سيل مقدمة من 200 صفحة لترجمته، يشرح فيها ظروف نزول القرآن التاريخية، ويقدم نبذة عن العرب والمسلمين وعاداتهم ومعتقداتهم. ولكنه يشير في المقدمة إلى أن الغرض من الترجمة "مساعدة البروتستانت على فهم القرآن كيف يتمكنوا من المجادلة ضده".

وبحسب سبلبرغ، فإن القرآن المترجم تجاوز قيمته "كأداة تبشيرية"، إذ أدرك المسيحيون في القرن الثامن عشر قيمة توسيع معارفهم حول الإسلام، وكان الإصدار الذي اقتناه توماس جفرسون من أكثر الكتب مبيعاً في تلك الحقبة.

تسامح أو كراهية؟

نظراً للسياق التاريخي لقرآن جفرسون، يختلف المختصون حول تفسير الغرض من ترجمة سيل للقرآن، واقتناء رئيس أمريكي له.

ويشير الصحافي يائير روزنبيرغ في صحيفة "واشنطن بوست": "يجسد قرآن جفرسون الحقيقة المزدوجة التي علينا الاعتراف بها بشأن علاقة أمريكا بالمسلمين. فمن جهة يدلّ وجوده على أن الإسلام كان جزءاً من قصة أمريكا منذ البداية. ومن جهة ثانية، تذكرنا ترجمة سيل، أن الخوف من المسلمين وإساءة فهمهم كان جزءاً من تلك القصة أيضاً".

وعند أداء اليمين على مجلد جفرسون، وصف كيث أليسون الكتاب بأنه دليل على وجود أشخاص "متسامحين دينياً وذوي رؤية، منذ نشأة بلادنا، آمنوا باستقاء المعرفة والحكمة من مصادر عدة، من بينها القرآن".

كذلك قالت رشيدة طليب إنها أدت اليمين على ذلك القرآن "لأن أمريكيين كثر لديهم شعور بأن الإسلام غريب عن التاريخ الأمريكي، ولكن المسلمين كانوا موجودين هنا منذ البداية".

وتعليقاً على عرض الكتاب في دبي، قالت مؤسسة المجلس الأمريكي لتمكين المسلمين وتعدّد الأديان أنيلا علي، لـ"خدمة الأنباء الدينية": "أشعر بالفخر لأن هذا القرآن الذي كان من مقتنيات أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، سيقدم للعالم كرمز على احترام التعدد الديني في أمريكا".

ويرى روزنبيرغ أنّ قرآن جيفرسون، رمز مهم "للثنائية الدقيقة في حياة المسلمين في أمريكا، كأشخاص مندمجين ومقصيين، في الوقت ذاته". برأيه، "صحيح أنه لا يمكن تغيير قرآن جفرسون بوصفه نسخة غير دقيقة من أقدس كتاب عند المسلمين، لكن يمكن إكسابه معنى جديداً".