حاوره فيصل العلوي: احسان الجيزاني فنان فوتغرافي عراقي مقيم في المانيا قدمت له الدعوة مؤخراً من قبل وزارة الثقافة الاسبانية في مدينة صالو الاسبانية وحمل عدته هناك ليشارك بمعرض في القاعة الاثرية القديمة باسبانيا خص به تحديداً ( البيئة وأهوار العراق ) وكانت طبيعة هذه الصور تشكل الجانب التعبيري والتوثيقي معاً ‘ وقد أبدى المشرفون على المعرض اهتماماً بأعماله ‘ اراد الجيزاني ان يقدم من خلال معرضه الحضارة القديمة الممتدة عبر التاريخ والتي لاتخص العراقيين فقط بل تخص البشرية جمعاء وما تعرضت له من تدمير وتخريب متعمدين محاولاً في نفس الوقت أقامة جسراً ما بين أهوار العراق – والغرب وقد حضر الكثير من المهتمين بالثقافة.

التحرر والمغامرة
يقدم الفنان احسان الجيزاني في هذه المساحة نموذجاً مبسطا عن رحلته الشاقة عبر العدسة الى أهوار العراق كان هاجسه متمثلاً في السؤال كيف أسيطيع أن أنقل عبرعدستي المتواضعة هذا الكم الهائل من المعاناة لأهالي هذه البقعة المنسية من العالم ‘ وكيف أستطيع أن أقتنص هذه اللحظة الأليمة لطبيعة هذا المكان الذي يرسم ظلاله السوداء منذ زمن بعيد في التقاطات تؤرخ الزمان والمكان معاً خلال هذه الدراما الأبدية؟ هكذا كان التساؤل الذي يجوب مخيلته ويجيب قائلاً حملت اَلة التصوير ومضيت وفي ذهني هذا العذاب الهائل الذي يعيشه هؤلاء البشر المهملين والمنسيين وحين وطأت قدماي منطقة الاهوار تحررت من كل هواجس المخيفة التي راودتني طوال الرحلة وكان سبب هذا التحرر هو المغامرة أولاً ثم فكرت في أن اضع نفسي في هذا المكان الخطر وكانت خطورة المكان ليست اكثر حالاً من خطورة المعاناة التي يعيشها هؤلاء والتي قررت سلفاً أن أنقلها للعالم خلال عدستي.

إلى أين ذهبوا

ويضيف الجيزاني من خلال بحثي الدؤوب عن موضوعاتي الفوتغرافية في هذا المكان "لفت أنتباهي بالتقاطة فوتغرافية قارب مقلوب على وجهه في ارض جرداء وكان المفروض بهذا القارب ( اللقطة ) التي أسميتها الغريب ان يكون في مكانه الطبيعي الهور" وهناك قارب ثاني كان قد سحب على احدى الضفاف كي لايتاَكل خشبه بسبب الجفاف الذي تعانيه هذه البقعة وقد أطلقت عليه أسم اليتيم وسبب هذه التسمية هو التفكير باصحاب هذا القارب... الى أين ذهبوا؟
فالقارب المقلوب قد وصل اصحابه الى أعلى درجات اليأس "أما القارب المسحوب كان لديهم أمل كبير في العودة ولهذا قاموا بسحبه هذه الفكرة جاءتني اثناء عملية التقاط هذه المشاهد عبر عدستي" ثم ذهبت بعيداً بحثاً عن أهالي الاهوار في المناطق التي عاد اليها جزاً من المياه "واثناء مشاهدتي لهذه المياه انتابني فرح كبير ‘ وقد زين هذا المشهد كثافة القصب" ومع هذا كان فرحي منقوصاً لانني أريد ان أصل الى انسان هذا المكان.

مابين القصب

ثم أختفيت ما بين القصب كي لا يراني الاخرون حتى تكون الالتقاطة الفوتغرافية ذات مغزى طبيعي غير مصطنع "متلصلصاً كالقط يعدو وراء الفأر.. ثم أحزنني في تلك اللحظة مشهد ذلك الرجل الذي يحاول صيد السمك لكنه لايمتلك أي من مقومات الصيد كالشبكة والقارب" فقد كان قاربه مصنوعاً من الفلين ويساعده في ذلك ولده الصغير الذي نزل الى الماء محاولاً ترتيب قطع الفلين كي يتمكن والده من الصيد... أي مهزلة هذه!
وبعد هذه المعاناة والحزن فقد قررت أن أتحدث مع الأهالي فذهبت حاملاً حقيبتي الفوتغرافية واثناء ذلك رأيت مشهداً أثار عندي نوعاً من الجمال المفقود في هذه البقعة والمتمثل بقارب مركون على احدى الضفاف بانتظار بعض النسوة والاطفال ليقلهم مع ما حصدوه من علف للحيوانات الى الضفة الأخرى حيث يعيشون وبعد ان أكملت هذه الالتقاطة الفوتغرافية "دنوت منهم وبدأت بالحديث بمنتهى الود ولم أر أية دهشة على وجوههم بسبب الزيارات المتكررة للكثير من الصحفيين ووسائل الاعلام والمنظمات الانسانية التي سببت لهم اليأس من كثرة الوعود التي لم تتحقق في تحسين أوضاعهم الاجتماعية" وبعد حديثي الطويل معهم عرفت بأن هناك الكثير من سكان الاهوار قتلوا وهجروا وأبعدوا قسراً بسبب ممارسات الحكومات الدكتاتورية "وعدم الاهتمام بهم وخصوصاً في العهد البعثي العفلقي وهناك من غادر الى بغداد وأقام في ضواحيها وخصوصاً منطقة التاجي المعروفة وبهذا قررت الذهاب والتحدث اليهم في بغداد."

الحياة على القمامة
وطاف الجيزاني بالكوارث والماَسي قائلاً. ومن كارثة الاهوار الى الكارثة البيئية الجديدة التي عاشوا بها في بغداد "فقد اقاموا وبنوا بيوتاً لهم وعاشوا على القمامة وهذه تكملة لمعاناتهم" فقد كان الأجدر بالحكومات أن تراعي وضع هؤلاء المأساوي الذي يفتقر الى ابسط مقومات الحياة البشرية. وبعد تجوالي مابين القمامة "صادفت أمراة تحمل قدراً معدنياً فأستوقفتها وبادرتها بالسؤال هل تسمحين لي بصورة لك؟ وكان ردها ايجابياً أثار استغرابي فكل هذه المأساة والحياة القاسية لازالت البسمة مرتسمة على محياها ويترشح من أنفاسها طيب العراق" فلازالت هذه المرأة رغم كل المعاناة والضيق متمسكة بعاداتها وتقاليد مجتمعها" وقد اضفى زيها الشعبي جمالاً فاق كل هذا البؤس المحيط بها كما اضافت الى اللقطة الفوتغرافية جماليات اخرى متمثلة بالماشية المنتشرة حولها وتنورها الطيني القابع خلفها والبيوت المبنية من القمامة والطين وجذوع النخل المقصوصة ثم أستدرت الى اليمين فرأيت الافق والقمامة متساويات... فأي بؤس يعيشه هؤلاء؟

الحاجة
واثناء ذلك تراَى لي مشهد تبين لي في مابعد أنه لامرأة تتجول مابين القمامة وغارقة بحمولتها للقمامة وحين سألتها الى أين تمضين بهذه القمامة؟... ضحكت ساخرة وقالت بتهدج.. سأبيعها لاحقاً كي اشتري ماأحتاج اليه وأطفالي..... وهنا استفزني قولها فأزددت عزما في البحث وايصال معاناة هؤلاء الشرفاء وذهبت الى الجهة الاخرى ثم شاهدت مشهداً مؤلماً متمثلاً بامرأتين تقومان باحضار الماء من ساقيه يملؤها العفن وتضعنه على عربة بعجلتين يجرها حمار بائس كبؤسهم – وعذراً لهذه المقاربة – وخلفهم اكوام من القمامة تجرفها الريح باتجاه الساقية ( هذه الساقية تذكرني بدجلة الخير...).

مراحل اليأس
وحول الاهتمام بخلفية اللقطة التي بدت واضحة في أغلب صور الجيزاني يقول ان اغلب هذه المشاهد الفوتغرافية لهؤلاء الذين أداروا ظهورهم لكل اشكال الهم والحزن قد وصلوا الى اعلى مراحل اليأس "فما فائدة الاستدارة اذا كانت الحياة مغلقة!"

فيصل العلويكاتب من سلطنة عمان