حوار مع القاص المغربيمحمد شويكة

قِصَرٌ يضم العالم، وعَالَمٌ داخل القِصَرِ
القصة كفلسفة لتجاوز كبوات الذات

أجرى الحوار: مبارك حسني

* حدثنا عن مسيرتك الإبداعية من وجهة نظرك الشخصية كقاص (السؤال ليس صحافيا)؟
-أظن أن أصعب مأزق يوضع فيه المبدع، الحديث عن نفسه، لأن أسئلة ضخمة من قبيل: كيف أقدم نفسي؟ ومن أين أبدأ؟ لن تصمد أمام ميكانيزمات المحو والإضافة والتجاوز والموضوعية... ولن تسلم من الرؤية الذاتية، وإن كان الإبداع عموما رؤية ذاتية، أو هو تفاعل الذات المبدعة مع محيطها... إذا، بداية الحديث، عتبة الخطاب؛ فعندما نكشف عن أولى العتبات/العوائق نؤكد أن المحيط الذي نكتب فيه لا نفهمه بشكل كاف؛ وأن حرية التفكير عندنا لم تصل بعد إلى الطموح المراد مما ولد لدينا رقابة ذاتية جعلتنا نعتقل أفكارنا بأنفسنا وهذه هي المصيبة: هل أستطيع أن أتجاوز رقابتي الذاتية وأنا أتحدث إليك؟! وبالتالي تصبح مخيلتي صافية وخالية من الالتهابات الجماعية والفردية؟ هذا ما أشتغل عليه عندما أحفر في مخيلتي (بدأت في التشكل مع بداية السبعينات بمدينة سفلى). لا أعرف لما سماني أبي محمد؟ هل لأنني الذكر الأول أم تيمنا بمحمد؟ إذا كان الأمر كذلك فقد خيبت ظنه! قادوني في الأول إلى quot;المحضرquot; فتعلمت الحروف الأولى على اللوح، وكتبت الأرقام على اللوح، وغالبا ما اخترق قلم الفقيه القصبي أسفل ذقني لكتابة أشياء على هامش اللوح أحكي فيها عن... وعن... ثم عن... لكن، شكرا للوالد الذي قادني إلى المدرسة عوض الحقل (متنفسي ومكان انتشائي الآن: العودة الجميلة)؛ لم يكن يدري بأنني سأساهم في تشتت جميع إخوتي من حوله حتى أضحى تلاقينا غربة!
رفاق الدرب الآن! لم أعد أفهم وقوفهم على السفوح!: كنا ليلا نقطف بواكير حقول الإقطاعيين، وعندما نُطَارَدُ، أنسل وأقف جنب الفزاعة ملتصقا، كنت أحتفظ بالسر في نفسي... كان صديقي يلتقط دائما، نصحته بالحيلة، ففعل كذلك، ولكن الحارس أراد أن يفك عصا الفزاعة ليجلد بها أحد الساقطين، فوجد صاحبي quot;العصا/الفزاعةquot;... منذ ذلك اليوم لم أعد أثق في النصائح ولا في الفزاعات!
تعقدت المسارات اليوم وأصبح محمد بن العربي يلج العتبات/العوائق دون وهم أو وثوقية أو ثقة زائدة في الذات... لكنه أدرك معنى قطف البواكير! وأدرك معنى ألا تكون ابن quot;المدينةquot; أو ابن البادية، لا معربا ولا مفرنسا، لا منزويا ولا quot;لامنتمياquot;... الدُّوغْمَََا شر!

*يتوزع القصة المغربية الحالية تياران: القصة الحكائية ذات الحبكة الواضحة على الطريقة الزفزافية (إن صح التعبير) والقصة التجريبية على الطريقة البوزفورية (إن صح التعبير دائما)؛ فأين أنت من هذا الفصل إن كنت تتفق أصلا معه؟
2ـ من الصعب جدا على قارئ عاشق وانتقائي أن يتفق مع هذا التصنيف الثنائي، فالقصة المغربية تتجاوز هذه الثنائية غنى وتعددا، وهذا ما أظهرته العشرية الأخيرة من القرن المنصرم، إذ أبانت عن تطور مطرد للقصة المغربية عكسته اجتهادات كتابها (جدد وقدامى) على مستوى الكم والكيف... ولعل تصنيفا من هذا النوع (الأشخاص عوض التيارات)، أو التصنيف التحقيبي، أو التصنيف الجيلي، أو التصنيف التيماتيكي... فيه كثير من الاختزال الجمالي التعسفي لاجتهادات القصاصين المغاربة. القصة الآن، تتجاوز توصيفات النقد الكلاسيكية تلك إلى عوالم أكثر تشابكا وتعقيدا، إذ يتجلى من خلال نصوص البوح المنفتحة على تسكعات الأنفاس الساردة في متاهات القول الممكنة اليوم، فالنص القصصي المغربي له حمولات فكرية وإيديولوجية وعقدية صارخة وصاخبة لم تعد تسعف معها القراءة الصنافية، يلزمها نقد متعدد يتأسس على مفاهيم جديدة تنبع من خصوصية القصة المغربية الآن وهنا وغدا... إذا صنفنا القصة المغربية بهذا الشكل، نحكم ضمنيا على أنها تُرَاوِحُ مكانها ولم تبرحه، كما أن ربطها بتجارب محددة (دون أن ننكر ما أسداه المرحوم زفزاف وما يزال يسديه المتألق بوزفور من خدمات إبداعية متميزة لمجال القصة... إضافة إلى تجارب متميزة أخرى لم تصل بعد إلى مستوى التيار المستقل نظريا).
تحتاج القصة المغربية إلى استراتيجية دراسية عميقة لسبر أغوارها وتتبع خطواتها ومشارب كتابها (متعددي المناهل الأكاديمية وغير الأكاديمية)، لأن جِدتَهَا وقوتها تظهر في ارتباطها بالكتاب لا بالمؤسسات أو المناطق أو... لذلك فنحن في حاجة إلى تكاثف الجهود المنظمة من أجل التنظير لخصوصيات القصة المغربية منذ البدء إلى اليوم مع مساءلة المنجز القصصي والنقدي معا.

*كتاب القصة القصيرة الآن كثيرون وما ينفكون يتزايدون. في نظرك، هل أصبحت القصة quot;ديوانquot; المغرب بعد أن كان الشعر هو السائد سابقا؟
- سوسيولوجيا، عدد الكتاب الآن في المغرب قليلون (دون تفضيل منجز على الآخر) مقارنة بعدد السكان وحجم الأمية. المغرب في حاجة إلى صناعة كتاب آخرين، وهذه المسألة رهينة بتطوير المنظومة التربوية والبيداغوجية في كافة مستويات التعليم، فما دام التعليم المغربي لم يسن بعد إجازة في مجال الإبداع، ولم يدرس الإبداع المغربي بشكل مكثف داخل مقرراته فهو متخلف... الإبداع مدخل مهم لتنمية الفرد، والفرد الذي يتربى على استهلاك إبداع الآخرين في مراحل تكوينه الأولى، سيكون مستلب الذاكرة، ومُحَقِّرًا لكل ما هو محلي؛ وهذا ما يطغى الآن حتى في صفوف بعض quot;المبدعينquot;!
وما دام، إحصائيا، عدد كتاب القصة في تزايد، فالأمر يدل على أنها بالفعل قد صارت ديوانهم المفضل. ولعل الأطروحة التي دافعت عنها في كتابي القصصي: quot;النصل والغمدquot; تشير إلى أن القصة تملك من المؤهلات ما يكفي لتكون ديوان العرب الجديد من جهة، ولما تحضى به من حضوة على مستوى التخصص من طرف الكتاب وانتشار في صفوف القراء مقارنة بالشعر من جهة أخرى... وقد اعتمدت في ذلك على بنية حجاجية أعيد صياغتها بطريقة أخرى بناء على المرتكزات التالية:
ـ المرتكز الوجودي: القصة نمط وجودي مناسب لكاتب اليوم لأنها بناء عقلي تركيبي مكنه ويمكنه من الإجابة عن بعض من أسئلته الوجودية والميتافيزيقية، كما أنها أداة إبداعية ناجعة لاقتناص لحظات القلق والتوتر والتقلب والاختناق المعاصر...
ـ المرتكز المعرفي: القصة اختيار معرفي استطاع ويستطيع من خلاله القاص طرح أسئلته المعرفية، ويسائل عبرها مكونات الفكر (على المستوى الإبستيمولوجي) من خلال اللغة باعتبارها ملازمة له... إذ اتضح أن توظيف القصة ممكن للإجابة عن أسئلة المعرفة وتجديد بعض إشكالاتها مهما تغيرت الحمولات والحوامل.
ـ المرتكز القيمي: القصة بناء معياري يسائل من خلاله القاص نمط عيشه وقيم مجتمعه (الواجبات والمسؤوليات)، كما أنها معطى جمالي يُضَمنُهُ القاص أسئلته الجمالية تجاه ذاته والآخر والعالم.
ختاما، تسير القصة المغربية نحو نسج فلسفتها في إطار نسقي وصفي وتفسيري وتنبؤي... لكل وضعيات المجتمع المغربي الستاتيكية والدينامية... وعليه، فكلما كان القاص دون رؤية ودون أطاريح، يكون بمثابة المنتحر في غياهب اللغة مع وقف التنفيذ... الفرق بين الأدب والفلسفة شفاف إلى درجة عدم الوضوح تماما (ما رأيك في هذه الأطروحة؟)!

*هل تؤمن بالنقاء الأجناسي في مجال الإبداع؟
- عندما أتصور أن الإبداع فعل إنساني خالص يشمل تحولات الكائن في كل تجلياته، أستطيع القول إن الكائن هو الذي يبني ويهدم، يجدد ويدمر كما يتجاوز ويتحيز... يضع مبادئ التجديد ويرسم أيضا خطاطات القديم. ارتكازا على هذه المداخل، أطرح الأسئلة التالية: هل الإنسان يضع المبادئ من أجل أن تقيده؟ هل الإبداع قيد أم حرية؟ هل وضعت القصة ـ التي تقوم على التجديد ـ بعض مبادئها لتصبح سلاحا في وجه كتابها؟
ما دام الإنسان واضع مقاييس التجديد والتحديد، فهو قادر على تهديم وتفكيك مبادئ كل شيء بناه، إنه قادر على الاختراق، وبالتالي فالأجناس الأدبية لم تسلم من هذا التدمير. تاريخ الإبداع القصصي هو تاريخ هذا الهدم. عموما، لم يعرف أي جنس أدبي النقاء المطلق لأن المبدعين أنفسهم لم ينحدروا من تخصص واحد، ولم ينهلوا من مشرب واحد، ولم تكن إيديولوجياتهم واحدة...
عندما نتحدث عن الإيمان بالنقاء ندخل القصة إلى نوع من الطهرانية المبنية على التسليم العقدي، ويصبح القاص بهذا المعنى منتميا إلى إخوانيات قصصية نقية عوض الانتماء إلى الإبداع الذي ينبني على الدهراني (Le seacute;culariseacute;).
يدفع التأمل المستمر في كتابة القصة القصيرة إلى استحضار المفارقة التالية: قِصَرٌ يضم العالم، وعَالَمٌ داخل القِصَرِ. أليس رهان القاص أمام هذه المفارقة ابتكار أساليب جديدة متجددة لإدخال العالم إلى قمقم القصة والعكس؟ بهذا الولع أكون قد فتحت لنفسي أفقا لتأمل النقاء الأجناسي، وإن كنت شخصيا لا أستطيع أن أرتكن إلى أية وصفة نهائية لكتابة القصة، فالقصة التي آمل أن أكتبها لم تخطها يدي بعد لأن رأيي الابستمولوجي حول القصة نفسها لم ولن يستقر ما دمت أكتبها وأتأملها... الزمن مفتوح على التأمل، وما دمنا نعيش لا يمكن لنا إلا انتظار المفاجأة (كل مفاجأة) في كل حين... شريطة ألا يضيع حِسُّنَا التأملي دائما!

* ما رأيك في هذه الأسئلة التي صاغها قاص مثلك؟
- التقينا كثيرا في ظلام قاعات سينمائية عدة عبر ربوع المغرب، لم تسر لي يوما بأنك تكتب القصة... اكتشفتك على سواحل/حوامل رقمية... أهلا بك في إمبراطورية القص... شكرا لأنك دفعتني إلى تأمل بعض من أسئلتي/أسئلتك القصصية التي ضاعت في صخب لقاءاتنا السينمائية... ألم يحن الوقت لنفكر سويا في علاقة القصة بالسينما؟!