كتب زياد جيّوسي : ليس من السّهل الغوص في ما تجود به روح فايز محمود؛ إذ أنّه إنسان صاحب فكر كبير وأفكار فلسفيّة ثريّة. وقد كان لي الشرف أن أعرف فايز الفيلسوف قبل ما يزيد عن ثلاثين عامًا من خلال كتابه: quot;الحقيقة بحث في الوجودquot;، هذا الكتاب الّذي اطّلعت عليه في بداية شبابي وأنا لم أبلغ العشرين من العمر، ترك في روحي أثرًا كبيرًا.

وحين التقيت فايز بعدها بسنوات في ظروف غاية في الصّعوبة لي وله، وبمجرّد أن عَرّف بنفسه حتّى كنت أقول له: أأنت صاحب quot;الحقيقة بحث في الوجودquot;؟ فلمّا أجابني بالإيجاب احتضنته بشوق وتحدثت معه مطوّلاً في أفكار كتابه، فيما فهمته وفيما استعصى على فهمي، ومنذ تلك اللحظة ربطتني بفايز علاقة صداقة متينة، ورغم غياب السّنوات الطّويلة والّتي لم تجمعنا، كان لقاؤنا يحمل عبق صداقة التّاريخ وروح الإنسانيّة.

وكوني أعرف فايز الإنسان، فايز الفيلسوف، فايز الأديب، أقول: ليس من السّهل الغوص في تلافيف ذاكرته وفي معرفة مكنونات ما تجود به نفسه بسهولة، فالأدب كما الفلسفة لدى فايز يحمل فكرًا ورسالة، يحمل روحًا محلّقة بقوّة، روحًا متسامية تدلّ على تكوين فايز النّفسيّ؛ هو إنسان بسيط الرّوح والمظهر والسّلوك، لكنّ أفكاره الّتي تبدو للوهلة الأولى كبحر هادئ، سرعان وبمجرد الغوص فيها ما تهبّ رياحًا وتثور أمواجًا، فيغرق من لم يكن يجيد العوم، وينجو من أجاده ولكن بصعوبة بالغة.

وفي هذا الجزء من مجموعته الكاملة والمختصّ بأعماله الأدبيّة، ورغم اطّلاعي سابقًا عليها، إلاّ أنّي وجدت نفسي أقف بدهشة الإنسان البدائيّ حين اكتشف النّار أوّل مرّة. ففي الجزء الأوّل منها- تناول مشكلة الحب، ولكنّه أعطانا نتيجة مسبّقة من اللحظة الأولى حين يقول: مشكلة الحبّ.. العناء الإنسانيّ بدون جدوى، فهو يضعنا أمام مواجهة كبيرة، فالحب يستحيل إلى مشكلة، والعناء الإنسانيّ يكون دون جدوى، ممّا يدفع القارئ الذي صُدم من العنوان صدمة تدفعه للغوص والبحث في ثنايا مشكلة الحب، ليجد فايز قد بدأ بأغنية ناعمة تتحدّث عن الحبّ والخوف من الفراق، لينتقل بنا مباشرة إلى مدخل يبحث في طبيعة العلاقة المعقّدة بين الرجل والمرأة، من خلال الاستشهاد بالكتب المقدّسة ثمّ الفلاسفة والأدباء والشّعراء، لينتقل بنا إلى الغوص في بحر متلاطم بالحبّ، الّذي بدون جدوى بأفق فلسفيّ وصيغة أدبيّة تبحث في هذه العلاقة المعقّدة من المشاعر الإنسانيّة، علاقة يبحث عنها ويدقّق فيها ويحلّلها من خلال ما أورده العشرات من الكُتّاب والشّعراء والفلاسفة في آثارهم وكتاباتهم الّتي عبرت عمّا جال في أرواحهم عن مشكلة الحبّ، عن هذه اللعبة الإنسانيّة الكونيّة، عن هذه المشاعر بين الحرّيّة والحتميّة، عن السّعادة بين الفكر والحبّ. ويبحث في دور الفنّ في اللعبة، حتّى يصل إلى تكافؤ النّدّين ووحدة المصير، quot;ههنا الحبّ.. كروعة الفنّ تمامًا.. يوحد الإنسان بذاته وبجنسه من خلال الحبيبquot;، لينتهي بمقولة جوركي: الحبّ والجوع يحكمان العالم. وفي النّهاية لا يعطينا النتيجة لبحثه بوضوح، بل يدفعنا بقوة لأن نعود لنقطة البدء والغوص في دواخلنا وتجاربنا، وأن نضع كلّ قضايا الحبّ بكافّة أشكاله الّتي عرفناها، تحت البحث والتّمحيص والتّفكير. ففايز بفلسفته يطرح المشكلة ويناقشها، لكنّه يترك في أذهاننا ألف سؤال يحتاج منّا أن نبحث على أمل أن نصل إلى نتيجة..

وفي كتابه: quot;تيسير السّبول.. العربيّ الغريبquot;، تبرز روح فايز محمود الإنسان بوضوح منذ اللحظة الأولى، فهو يخاطب المرحوم تيسير بقوله: quot;إنّ من يعش هكذا حياة، ويموت هكذا موتًا، سيعذر لمن يظلّ عائشًا كلّ ما يفعلهquot;، ومن ثمّ يبدأ بسلسلة من الدّراسات والمقالات الّتي تتناول تيسير سبول بكافّة مناحي حياته، ويستخدم فايز كالعادة أسلوبه الفلسفيّ بروح أدبيّة، وسعيه الدّائم للبحث عن الحقيقة، هذه الحقيقة الّتي تعني دومًا لدى فايز محمود البحث عن الوجود، فيبحث عن الحقيقة في كافّة مناحي شعر وحياة تيسير سبول، ويصل إلى أنّ وفاة تيسير السّبول بالطّريقة المفجعة الّتي حصلت، بقوله: quot;ما كان لهذا التّلاحم أن يستديم، بين الشّاعر والعالم، في دنيا حافلة بكلّ ضروب الوحشيّة.. تلك كانت أغنية أسيانه طوتها الثّواني، وما عتم الطّوفان أن قذفه بعيدًاquot;.

ويستمرّ فايز محمود بمسيرته الأدبيّة، فنراه في quot;ثلاثة نقوش محجوبةquot; كما النّور يخترق الرّوح. ففايز هنا ينقش الرّوح عبر الحرف والنّصّ، فيجعلنا نعيش معه فلسفة أخرى لم نعتدها، فيبدأ نصّه بالسّؤال: quot;ما هي نقطة الانكسار المحوريّة في طبيعتنا البشريّة؟quot;. فيبحث في الصّداقة والحبّ من خلال مخاطبة الآخر الأنثى بهمسات رقيقة وفلسفيّة بأسلوب أدبيّ عالي المستوى والرّقة، يجعلنا نشعر بأنّنا نخوض عباب بحر هادئ وجميل، لكنّه يحمل تحت الهدوء عاصفة الرّوح وعاصفة القلب.

في quot;صدى المنىquot; يواصل فايز محمود بحثه الدّائم عن الحقيقة وعن الجمال، فيخوض في مفاهيم إنسانيّة ويمازجها بهمس الرّوح عن المدينة الّتي ارتبط اسمه بها وشهدت نشأته. فيكون للمكان كما الإنسان وجود كبير في روح فايز، فهو يبحث في العديد من المشاعر الإنسانيّة كالصّداقة وارتباطها بالصّدق، فيخلص إلى خلاصة تقول: quot;سيبدأ تحوّل الإنسانيّة الجديدة، وبوعي غير زائف، لتحديد مصيرها المستقبليّ، حين يتنامى الصّدق وتزدهر الصداقة في عالمنا البشري الواسع أفرادًا وأممًاquot;. ونجد فايز محمود ومن خلال بحثه في مفهوم الصّداقة ومنحها البعد الإنسانيّ الواسع، يدعنا نضع أسس عالم أجمل، عالم أشبه ما يكون بالمدينة الفاضلة، وقد يعتبر الكثيرون هذه الأفكار محض تحليق في الخيال، ولكن من يغوص فيما أفرزت روح فايز محمود من إبداعات، يكتشف أنّه يعبّر عن أفكار وروح إنسانيّة، لا بدّ في يوم ما أن تتحقّق، تحويل الحلم إلى واقع، فليس من واقع يصبح واقعًا بدون أن يسبقه الحلم، فهو يؤمن إيمانًا مطلقًا quot;أنّ الحلم لا يتلاشى في ضوضاء الدّنياquot;، وأنّ الطّريق للإنسان تكون quot;انفتاحًا دائماً لتقبّل الحقيقة، وروحًا متجدّدة للصّداقةquot;، ويبحث في المشاعر المختلفة والإنسان وما يحياه ويواجهه حتّى الموت، وهو في فلسفته لا يخشى الموت ويخاطبه بقوله: quot;أيّها الموت المستتر في قلب الوجود، أسمع نبضك في روحيquot;. ولا يترك منحى دون مناقشته بروحه الفلسفيّة وأسلوبه الأدبيّ الشّاعريّ، فهو يبحث على سبيل المثال: شهوة الحياة، وجع الرّؤيا، العطاء، الضّوء عبر الإنسان، الطّفولة.. والكثير من مناحي المشاعر والحياة، فيخوض فيها ويكتشف أسرارها والجمال.