بلال خبيز: يتفق اللبنانيون جميعاً، وهذا أمر نادر الحدوث، أن ما بعد 7 حزيران/ يونيو، غير ما قبله. لكن وجهة التغيير ونقطة إنطلاقه مما يختلف عليه اللبنانيون من دون شك. الطامحون في المعارضة إلى التغيير، يعتقدون أن البلد سيصوت بأكثرية ما في صالح وجهتهم، وتالياً في صالح تمكنهم من تسلم مقاليد السلطة. والطامحون إلى التغيير في الموالاة يريدون الوصول إلى أكثرية مرجحة تسمح لهم بالحكم. والحال، مثلما هي قبل 7 حزيران، وباعتراف الطرفين، أن ليس ثمة من يحكم في لبنان. على الأقل، ليس ثمة من هو راض عن حدود سلطته.

حسناً، لهذه الأسباب بالتحديد تم اختراع الانتخابات. وقد يهنئ الخاسر الفائز في الانتخابات ويتمنى له الخسارة في الدورة القادمة. لكن قبول الخاسر بخسارته، والتصرف وفق مقتضياتها، لن يعمر طويلاً في بلد مثل لبنان، لطالما كان لا يملك وقتاً لإضاعته. المعارضة من جهتها تعتقد أن البلد يواجه تهديدات كبيرة الحجم، ومتعددة الجنسية. فضلاً عن أطماع إسرائيلية ليست خافية، وقد أضيف إلى المياه والأرض في السنوات الأخيرة، سلاح المقاومة. فإسرائيل لم تعد اطمع في المياه والأرض فقط، بل أيضا في نزع سلاح المقاومة. ولا يملك أي كان أن يرد هذا الافتراض السائد في صفوف المعارضة، أو يعترض عليه، بحجة أن مطامع إسرائيل ليست حيث يحسبون. لطالما كانت إسرائيل طامعة، ولطالما جهل اللبنانيون بطبيعة أطماعها، فقاوموا حيث لا تنفع المقاومة، وانتصروا حيث لا ينفع النصر.

الموالاة من جهتها أيضا، تعتقد، على نطاق واسع، أن البلد يمر في أزمة حرجة، اقتصادياً وسياسياً. وان مغامرات المعارضة الكبرى، وخطيئات الموالاة، أيضا بددت معظم رأسمال البلد من الصداقات الدولية، وتكاد تهدد استقراره الاقتصادي الذي ما زال على الكفاف منذ سنوات. من ذا الذي قد يستطيع تسويق بلد تحوم طائرات معادية في سمائه؟ والحال، البلد بالنسبة إلى الموالاة أيضا يقع على الحافة. وقد ينزلق إذا لم يأخذ الجميع جانب الحيطة والحذر.

الخلاصة من هذا كله، ثمة اتفاق لبناني على محصلة ثانية غير الأولى المتعلقة بما قبل 7 حزيران/ يونيو وما بعده. لكن الإجماع على المحصلة الثانية ليس من حسن حظ اللبنانيين كحال الإجماع على المحصلة الأولى. تفيد هذه المحصلة إن لبنان يواجه أخطارا داهمة. وحيث ان كل طرف من الأطراف اللبنانية يعتقد أن طريقته في المواجهة هي الطريقة الأمثل للبنان، وان سبل مواجهة الطرف الآخر لهذه الأخطار تتسم بالخفة في لحظات سيادة أدب المجاملات بين اللبنانيين، وتوصم بالعمالة للأجنبي، فارسياً او أميركيا، في لحظات سيادة قلة الأدب السياسي وما أكثرها في لبنان. وتالياً ليس لدى القوى السياسية اللبنانية، الحريصة والخائفة على لبنان من دون شك، وقتاً لتضيعه.

الانتخابات النيابية في اي بلد في العالم، تسمح بتداول السلطات، بشرط أن لا يكون الوقت محشوراً والأخطار داهمة. وبصرف النظر عن صحة ما يفترضه أهل السياسة في لبنان من أخطار داهمة باتت تدق الأبواب من عدمها، فإن القوى السياسية اللبنانية مقتنعة ان البلد يسير على الحافة وان الأخطار داهمة، وهي ستعمل بموجب أن الأخطار داهمة فعلاً. قد لا تحصل حرب إسرائيلية على لبنان، وقد لا يدخل حزب الله في مغامرة عسكرية لتجنيب إيران أو سورية مواجهة استحقاقات داهمة.

لكن القوى السياسية في لبنان تعتقد أن مثل هذه الاحتمالات حالة وقائمة، وكل جهة من الجهتين في لبنان تعتقد انها تعرف الجهة الأخرى أكثر مما يعرف أهلها أنفسهم. (لم يعرف الرئيس فؤاد السنيورة انه عميل إسرائيلي إلا حين قال له حزب الله ذلك!) وهذا ما يطبع العمل السياسي فعلاً ويدمغ الحملات الانتخابية بدمغته الدامية. والحال، ربما تكون الأخطار الداهمة ليست داهمة فعلاً وربما يكون التهديد الخارجي مؤجلاً، لكن القوى السياسية تتصرف كما لو أنها لا تملك وقتاً.

وحين يكون الخوف من المؤامرات الخارجية حاداً وجاداً كما هي حال اللبنانيين، فإن أي طرف منهم لن ينتظر على الأرجح أن تقلع الطائرات المعادية من مطاراتها. بل سيحاول التصرف، ومعنى التصرف هنا أن يسعى لقلب الطاولة على خصومه. فإما يربح الانتخابات ويعترض عليه الطرف الخاسر ويشكك بشرعيته، وهذا عين ما حصل طوال السنوات الأربع الماضية، وإما يخسر الانتخابات فيشكك بشرعية الفائز. وكلا الخيارين ليسا إلا وصفة جاهزة من وصفات الحروب الأهلية.

اللبنانيون دائماً يغرقون في الأنهار خوفاً من النار. الأنهار اللبنانية رقيقة الحاشية، وليس في وسعنا أن نحملها ما لا تستطيع حمله، وهي طبعاً، ليست مثل نهر النيل أو الفرات، وإن سقطوا فيها لا يغرقون، لذا يفضلون القفز في النيل، فهذا على ما يقول المصريون quot;بحر غويطquot;، وفي وسع اللبنانيين أن يغرقوا فيه جميعاً دفعة واحدة.