بلال خبيز: اليوم يكون قد مضى أربع سنوات. هل كان الحصاد يستحق نفيس البذار هذا؟ الانتخابات بعد أربع سنوات على اغتيال سمير قصير تبدو غيرها قبل أربع سنوات. يقولون ان الشهداء يلزمون الأحياء بالوفاء. لكن الموفون قد يكونون قلة. سمير قصير قبل أربع سنوات كان جاري في العمل، لم يكن يفصل بين مكتبينا غير خطوات قليلة وبضع ملاحظات متبادلة. اليوم أنا أصبحت في آخر الدنيا وهو في الدنيا الآخرة. يا لمفارقات لبنان!

الفارق بين البقاء في آخر الدنيا ومغادرة الدنيا إلى دار البقاء، ان العائش في آخر الدنيا يستطيع، إذا ما قرر مقاومة الحاجة الملحة للشروع في ترتيب أسباب عيش مطمئن، ان يبقى على اتصال بما كانه من قبل. ان يقول كلاماً، ولو من بعيد. ان يُبقي مادة الكلام حية ويحاول قدر الإمكان إغزارها. أما المغادر إلى دنيا البقاء، فلا يعود قادراً على صنع الكلام. الشهداء، الكتاب منهم على وجه الخصوص، حين يمضون إلى مصيرهم، يجعلون الكلام على الكرة الأرضية أقل. بموت الكاتب يقل الكلام. وبموت الكاتب نخسر أفكارا كثيرة لم تقل، وآراء جليلة خطفها الموت. وبموت الكاتب، تفتقر القوى السياسية لقدرتها على التجدد أفكارا ومحاججة وتوليد مواقف.

في ذكرى سمير قصير، ربما يجدر بنا ان نتفكر في أحوالنا اليوم. حين غادرنا سمير قصير كانت أعصاب المناعة لا تزال حية في بيروت. لم يكن يجرؤ احد يومها على قتل الصحافي والكاتب بالشائعة. كان عليهم ان يقتلوه بعبوة ناسفة حتى يتم لهم ما يريدون. وعلى نحو ما فإن قاتل سمير قصير لايزال طليقاً، أو قتلته على وجه الدقة، ولا يزال قادراً على القتل. ففي هذه الحالة، ثمة مقتول معروف وقاتل نكرة. وفي هذه الحالة يمكن المرء ان يستعيد ما كان سمير قصير يكتبه بوصفه لا يزال يملك مناعة ضد القتلة المجهولين. صحيح ان الكلام الذي كتبه سمير قصير لا يناسب كله سجالات اللحظة الراهنة التي تجري في لبنان والعالم العربي، لكن هذا الكلام لا يزال يملك ألقه المتأتي من انه في نهاية المطاف كلام أودى بحياة الكاتب نفسه.

لم يكن سمير قصير يريد ان يموت، لكن أحدا لا يستطيع ان يعيد قلبه وقلمه إلى مكانهما القديم. مات سمير قصير في اللحظة التي كان لا يزال فيها قادراً على الاتهام. فالكتابة في اي مكان من العالم تملك الحق في اتهام السياسة والسياسيين وتملك الحق في محاسبتهم قبل السلطات القضائية وقبل التشريعية أيضا. لكن قاتل سمير قصير أو قتلته غيروا أسلوبهم في ما بعد. لقد اكتشفوا ان الشائعة تقتل أفضل من السيف. فلم يعد ثمة كاتب في لبنان اليوم في منأى عن الاتهام بالعمالة للعدو، أو التآمر على البلد. ومَن ينشرون الشائعات ويكيلون التهم ويميناً ويساراً مجهولون تماماً مثلما هي حال من كان يضع العبوات الناسفة في سيارات الكتاب والسياسيين في بيروت. أشباح، ويستطيعون التحكم في مصائر الناس. بل ان الناس في بيروت، بعضهم على الأقل، باتوا يصدقون الأشباح أكثر مما يصدقون البشر.

لم يكن مثل هذا التحول في العلاقة بين الكلمة وكواتم الصوت ممكناً لولا ان الحياة السياسية في لبنان بلغت درجة من التردي لم يعد ممكناً معها إبقاء الكتابة حية ومعبرة. أصلا لم يكن مقدراً ان يصل السياسيون القائمون في البلاد إلى درجة من الثقة بالنفس والصلافة وقلة الصبر إلى حد يبيحون معه قتل الكتابة جسدياً ومعنوياً. فالسياسيون اللبنانيون زعماء وأشباه زعماء، أصبحوا اليوم في غنى تام عن كل ما يزعجهم او يطرح عليهم مجدداً الأسئلة الضرورية. كل سائل في لبنان اليوم هو مشروع شهيد معنوي، وكل متذمر هو متواطئ، وكل معترض على الموت والحزن هو جاسوس.

أما الذين لايزالون يملكون الحق في ان يكونوا مادة لمديح السياسيين، من قبيل وصفهم بأشرف الناس، فهم بالضبط من لا يملكون ألسنة بعد ولا يمكن تعريفهم بأسمائهم. لبنان اليوم يمحو أسماء بنيه ويقتل كلامهم. وإذا ما استمرت الحال على الوتيرة نفسها من التردي، فإن الزمن كفيل قتل أسماء الزعماء الشموليين أنفسهم وتدمير انجازاتهم. هل زمن لبنان المستقل والمحرر سيعمر طويلاً؟ أم ان أبطال التحرير أنفسهم سيصبحون بعد حين أبطال الدعوة إلى استعادة الاحتلال؟

قبل أربع سنوات، زرع بعضهم عبوة ناسفة تحت مقعد السائق في سيارة سمير قصير. استشهد الكاتب والصحافي وأقفل مكتبه في جريدة quot;النهارquot;. اليوم، ثمة من يضع عبوة ناسفة تحت مقعد البلد في العالم، والخوف كل الخوف ان يقفل مكتبه مرة أخرى في صحافة العالم ومنتدياته السياسية والقانونية.