بلال خبيز: ما الذي يجعل الموارنة يفضلون مصلحة سياسييهم على مصالح الطائفة الحيوية؟ سؤال لا بد انه يدور في أذهان المتنورين من سياسييهم. لكنه من دون شك ليس سؤالاً حاضراً في اذهان الطامحين إلى السلطة او التمثل في الحكومة اليوم. ربما كان على المتابعين للشأن اللبناني ان يتفكروا جيداً في معنى عزوف بعض اهم سياسيي الموارنة اليوم عن خوض الانتخابات الأخيرة ترشيحاً. ذلك ان الحديث عن السلطة اليوم او المشاركة المارونية في السلطة اليوم يشبه في ما يشبه وضع مصلحة القائد السياسي المباشرة في موقع مصالح الطائفة الحيوية في البلد.
لبنان كما يعرف جميع ابنائه، بلد محكوم بمنطق المحاصصة الطائفية، لكنه قطعاً ليس محكوماً بمنطق المحاصصة السياسية. مع ذلك ثمة كثر من اللبنانيين لا يفرقون بين المحاصصتين. واقع الحال ان المحاصصة الطائفية تشكل قيداً ثقيلاً على تطور البلد الديموقراطي، لكن هذه المحاصصة نفسها هي ما يمنع البلد من ان يتم ابتلاعه وذوبانه في ما حوله. وقد يكون التركيب البنيوي للبلد مسبباً لأزمات متعددة ومتكررة، لكن هذا التركيب نفسه هو ما يسمح له بالنهوض كل مرة من عثراته. لا يخفى ان البلد مأزوم في تركيبته. إنما لا يجدر باللبنانيين الكفر بهذا البلد. البلد له امثلة في المنطقة لا تحصى. الحروب الاهلية ليست شأناً لبنانياً خاصاً، في العراق حدث ما يشبه حرباً لبنانية، في اليمن ايضاً، في بعض دول الخليج، في الأردن وفي فلسطين. اسرائيل نفسها التي لا تكف عن الاستقواء على الفلسطينيين والعرب مأزومة بنيوياً على نحو فادح. والارجح ان مخرج الاعتراف الدولي والعربي بيهودية الدولة لن يقلل من عمق الأزمة ولن يغير في واقع الأمور شيئاً. لكن الفارق الجلي بين لبنان وجيرانه ان الحريق فيه سريع الاشتعال وان الشجر فيه سريع النمو بعد زوال الحريق. لبنان يتعافى اسرع من العراق، اسرع من اليمن؟ قطعاً. لكن لبنان ايضاً ينتكس اسرع.
المحللون الفلسطينيون يعرفون في لبنان هذه الخاصية. زمن الحداد في لبنان لا يدوم. الأرجح ان الفلسطينيين يحسدون اللبنانيين على هذه القدرة على النسيان والتسامح. ذلك انهم احوج من يكون إلى مثلها. لكن ما يربحه الفلسطينيون في العمق يخسرونه في التنوع، في حين ان اللبنانيين يربحون في التنوع ويخسرون في العمق. هذه المقارنة بين شعبين جارين متشابكي المصائر لا تهدف فعلاً إلى تفضيل واحد على آخر. في لبنان وفلسطين ثمة ازمات خانقة، وثمة ايضاً اشراقات لامعة. هذا كان واضحاً على الدوام وسيبقى واضحاً في المقبل من الأيام.
البلد محكوم بطوائفه، بوصفها من مكوناته الأساسية. وعليه يلحظ الدستور اللبناني مصالح هذه الطوائف ويأخذها في اعتباره. لكن البلد ليس محكوماً ولا يجدر به ان يكون محكوماً بمراعاة مصالح القوى السياسية الفاعلة فيه. للقوى السياسية ان تقترح مشاريع حكم ومعارضة، ان تخوض انتخابات تخسر فيها او تربح، ان تلجأ إلى وسائل الاعتراض حين تجد في السياسات العامة ما يخالف مصالحها. لكن القوى السياسية هذه ليست مخولة ان تنطق باسم الطوائف ومصالحها. وتالياً تثبيت الطوائف عند خط من الانقسام لا يحول ولا يزول. وحيث ان القوى السياسية اليوم وتاريخياً ايضاً، تنزع دوماً إلى احتكار النطق باسم مصالح الطائفة، فإن الخاسر في هذه المعادلة هو الطائفة نفسها من مصالحها الحيوية ومن قدرتها على المشاركة في التأسيس للبلد. وثمة بين المشاركة في التأسيس للبلد والمشاركة في الحكم بون شاسع لا يدرك مداه اليوم إلا قلة من السياسيين الموارنة. وربما قلة من السياسيين اللبنانيين عموماً.
تركيز الحديث على اوضاع الطائفة المارونية لم يكن ليكون على هذه القدر من الأهمية لو ان سياسيي الطائفة وقادة قواها السياسية يدركون حجم التحديات التي تجبه الطائفة والبلد من خلفها. فحين تصبح الطائفة مطواعة إلى هذا الحد امام كل مشروع سياسي مصدره من خارجها ويقاد من خارج حدودها يصبح امر الإصرار على المشاركة في الحكم دون التركيز على الدور المتجدد للطائفة في إعادة تأسيس البلد المستمرة منذ ولادته، اشبه ما يكون بجائزة ترضية لخاسر الجائزة الأولى. هي جائزة ترضية، لأن الخاسر يعرف ان ثمة رابحاً في مكان ما. وان ما قدم له لا يعدو عن كونه اقل من أذن الجمل.