رسمة
BBC

مدونة بي بي سي عربي طلبت من شباب وشابات أن يكتبوا عن علاقات حب عن بعد مروا بها؛ كريم المنتصر (28 عاما) ذهب إلى أندونيسيا بحكم عمل والده في السفارة الليبية، والتقى هناك بفتاة من الفلبين. بعد 11 عاما أصبحت خطيبته.

بدأت قصتنا عندما سافرت مع أهلي عام 2008 إلى جاكرتا بحكم عمل والدي في السفارة الليبية في إندونيسيا وكنت حينها في السابعة عشرة من عمري. كان الانتقال من مكان لآخر أمرا معتادا بالنسبة لنا، وكنا قد عشنا في ثلاث دول قبل ذلك، لذا لم أشعر يوما بالانتماء لأي مكان.

كان موقع فيسبوك لايزال جديدا نسبيا، لكن موقع تواصل اجتماعي آخر اسمه "تاغد" كان شائع الاستخدام فوجدت نفسي أجربه. أضفت فتاة رائعة من الفلبين اسمها إيلين، ولم أتصور يوما أن ضغطي على زر الإضافة ذاك سيقودني يوما إلى الارتباط بتلك الفتاة طيلة أحد عشر عاما وسيجعلنا مخطوبين.

بدأنا التواصل عبر رسائل نطمئن فيها على بعض؛ كانت على وشك الانتهاء من دراسة التمريض بينما كنت أدرس إدارة الأعمال. بدأت تدريجيا ألاحظ مدى روعتها؛ كانت بريئة، مجتهدة في عملها، ذكية، تهتم بعائلتها، فانجذبت جدا إليها.

إلى أن حل عام 2011 وتغيرت حياتي.

توفي أبي أمام عيني قبل أسبوع على عيد ميلادي العشرين، كنت أشعر أن مسؤولية حمايتي أنا وأمي تقع على عاتقه وكان فعلا يبذل ما بوسعه لضمان ذلك، ومن يوم وفاته تغيرت، ولم أعد كما كنت. كنا نحظى بامتيازات كثيرة بحكم عمله؛ كانت لدينا سيارة فارهة، وكنا نحضر احتفالات مع باقي عائلات الدبلوماسيين، وكان الناس عموما يظهرون الاحترام لنا ولبلدنا، ليبيا. وقبل وفاة والدي لم أكن قد جربت أن أعمل أبدا. ولكن تغير كل ذلك بوفاته، بما في ذلك صورة ليبيا، التي بدأت أدرك أنه كان ينظر لها "كبلد يضم كثيرا من الإرهابيين".

وقبل المغادرة أردت أن ألتقي إيلين وجها لوجه لأول مرة، لذا ذهبت إلى بلدتها وتدعى باكولود عام 2013 والتقيت بعائلتها التي وافقت على خطوبتنا رغم اختلافنا ثقافيا ودينيا. منذ ذاك اللقاء العائلي تعاهدنا أن نمضي المشوار معا، بكل ما فيه من تحديات.

انتقلت للعيش في طرابلس - مسقط رأس والدي - وكانت المدينة لا تزال في فوضى عارمة؛ كانت الميليشيات في اقتتال دائم، وكان صوت الرصاص المستمر أمرا معتادا، مثله مثل رؤية الدبابات في الطرقات. كان التحدي الكبير أن نجد وقتا لنتواصل. اضطررت للعمل في ثلاث شركات مختلفة في آن واحد لأعول أمي ولأدخر. كان يفصلنا فرق توقيت هائل، كما كانت خطوط الإنترنت سيئة جدا لكننا كنا نجد دائما طرقا لنبقى على تواصل.

لم تكن كل عائلتي سعيدة بخطوبتنا أو داعمة لعلاقتي بإيلين؛ كان بينهم الرافض بشدة للفكرة؛ إذ أرادوا لي أن أسير حسب العادات والتقاليد وأتزوج بفتاة من بلدي، لكني رفضت ذلك تماما.

ألقت الحرب بحملها الثقيل على مدينتي وعليّ، وبعد ليلة أصابت فيها ثلاثة صواريخ أبنية قريبة من حيّنا (في شارع الزاوية، جامع مولاي محمد) قررنا الرحيل، لم أعد قادرا على البقاء في طرابلس، فتركت عملي في الشركات الثلاث، واشتريت تذاكر سفر إلى بلغاريا - بلد أمي الأصلي - وسافر أنا وأمي إليها عام 2015.

اقرأ المدونة كاملة: حب عن بعد

سافرت من ليبيا إلى بلغاريا، وكانت إيلين حينها قد انتقلت لتوها إلى سنغافورة لتعمل كممرضة في مشفى مرموق. كان عملها مرهقا؛ وكنت فخورا بها فمهمتها كانت رعاية أطفال في حالات حرجة.

وفي بلغاريا كان الوضع الاقتصادي في ترد، لذا ذهبت للبحث عن فرص أفضل في دبي عام 2016، وبسبب تكلفة استئجار السكن الباهظة هناك تعيّن علي تقاسم المسكن الضيق مع عدد كبير من الأشخاص لأدخر بعض المال. كان الوضع مزريا للغاية بسبب تزاحمنا، وكنت أتجنب المكوث في الغرفة إلا وقت النوم. كان علي العمل لساعات طويلة، وبسبب وضع المكان الذي كنت أعيش فيه لم أستطع الحديث مع إيلين دون وجود عشرات من العيون والآذان المحيطة بي.

في تلك الفترة بدأنا نفكر في ضرورة تكوين أسرة، فصرنا نبحث الخيارات المتاحة: بسبب الحرب في ليبيا لم تكن العودة إليها خيارا واردا؛ ولم تكن الفلبين المكان المثالي للادخار؛ أما بلغاريا فكانت فتواجه صعوبات اقتصادية وتختلف ثقافيا عما اعتادته إيلين؛ وفي الإمارات يستحيل الحصول على الجنسية؛ وبالنسبة لسنغافورة هناك الكثير من العقبات القانونية التي تحول دون استقراري فيها. لذا رأيت أنه كان من الأفضل لي العودة إلى بلغاريا، وهكذا كان عام 2017.

كنت أعمل في العاصمة صوفيا، وأعيش في بلدة أخرى؛ استيقظ في السادسة لألحق بالحافلة في السابعة، وأعود للبيت نحو العاشرة مساء كل يوم. كل هذا أضاف عبئا على تواصلنا، فضلا عن فرق التوقيت ومحاولة إيجاد وقت للتواصل بين نوبات عملنا المختلفة. احتاجت علاقتنا بذل جهدا مستمر، وكنا نتحدث بالفيديو خلال فترات الراحة بين العمل وأثناء الذهاب للعمل والعودة منه. وخلال السنوات التي أمضيتها مع إيلين، تبادلنا أكثر من مليون رسالة على فيسبوك، ودخلنا بمشادات لا حصر لها وخلافات وقضايا وصعوبات، ومع ذلك استمر الحب وتغلب على كل ذلك؛ فهو ذاك الخيط الرفيع الذي يبقيك مستمرا. كانت لحظات السعادة القصيرة بيني وبين إيلين هي ما أحدثت كل الفارق.

بعد كل هذه السنوات أدركت أن العلاقة عن بعد تأتي بتحديات جمة؛ كانت أحيانا الغيرة تستبد بنا، وخبرنا الوحدة لسنين، وكان البعد صعبا، أصعب من أي شيء يمكن تخيله، ناهيك عن صعوبة التواصل، وعدم القدرة على رؤية أحدنا الآخر أو حتى إرسال رسالة بسبب سوء خطوط الإنترنت - ما جعلنا نكاد نجن أحيانا. ولكن بعد كل هذه السنوات مع إيلين، عشرة منها أمضيناها خلف الشاشات، اجتازت علاقتنا المحك الأصعب وأدركنا أن لا غني لأحدنا عن الآخر.