كف رضيع ورجل
Getty Images

لم يكن علي براهم يظن أن شهادة ميلاد ابنه البكر سرعان ما ستتبعها شهادة الوفاة. فوليده كان من بين الرضع الذين غيبهم الموت بأحد مستشفيات العاصمة التونسية، في فاجعة هزت المجتمع.

وعلى ربوة مقبرة "الجلاز"، التي تطلّ على المدخل الجنوبي للعاصمة، وارى براهم رضيعه الثرى، وهو يردد أنه لن يترك حقّه يضيع.

ويقول الرجل الأربعيني لبي بي سي، وقد أنهكته الأيام القليلة الماضية "ضممت ابني إلى صدري، وكان إحساسا لا يوصف، ثم مات بعد أيام".

واتهم براهم الرئاسة والحكومة والوزارات والمستشفى والأطباء بالإهمال.

وأفاق التونسيون في الأسبوع الماضي على خبر وفاة 11 رضيعا خلال 24 ساعة جراء تعرضهم لـ"تلوث دموي"، بحسب تحقيقات أولية. واليوم أعلنت مصادر قضائية ارتفاع العدد إلى 15 حالة وفاة.

واستقال وزير الصحة، عبد الرؤوف الشريف، يوم السبت، لتقوم بأعماله وزيرة الرياضة، سنية بالشيح، التي خرجت يوم الاثنين، لتؤكد أن "الحكومة عازمة على تحديد المسؤوليات ومحاسبة الضالعين في هذه الكارثة الوطنية".

لكنّ علي براهم، الذي تسلّم جثّة ابنه يوم الاثنين، شكّك في نيّة السلطات التونسية "الذهاب بعيدا في التحقيقات".

وتظاهر ناشطون، مساء الثلاثاء، في ساحة القصبة، قبالة مقر الحكومة، مطالبين رئيسها، يوسف الشاهد، بتقديم استقالته.

"مشاكل هيكلية"

وجاءت فاجعة قسم الولادة بمستشفى "الرابطة" لتلقي الضوء على مستوى الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة في تونس.

وفي تصريح لبي بي سي، أوضح طبيب الإنعاش بمركز التوليد بالمستشفى، محرز قوادر، أن المؤسسة التي يعمل بها "تعتبر أحد أكبر المراكز الصحية الحكومية في البلاد"، مضيفا "لكم أن تتخيلوا الأوضاع التي يعمل بها الأطباء في بقية المراكز الصحية المنتشرة في البلاد".

وقال قوادر إن "ما حصل كان متوقعا بالنظر إلى تدهور ظروف العمل وتراجع التمويلات المرصودة لقطاع الصحة، بما في ذلك تلك التي كانت موجهة لتوظيف مزيد من الموارد البشرية"، مشيرا إلى أن الكثير من أطباء المستشفيات الحكومية يعملون، في أحيان كثيرة، لأكثر من 14 ساعة متواصلة.

وكشفت نقابة الأطباء عن ترك 460 طبيبا العمل بالمجال في عام 2017، فيما أشارت إلى أن الرقم مرشح لبلوغ 1700 بحلول عام 2022.

ويرى قوادر أن قطاع الصحة العمومية في تونس يعاني "مشاكل هيكلية جراء سياسات الحكومة، خاصة في ما يتعلق بإملاءت صندوق النقد الدولي التي ضغطت بشدة على ميزان المدفوعات".

تراجع الميزانية

ويوضح عضو المكتب السياسي لحزب التيار الديمقراطي المعارض، محمد العربي الجلاصي، أن تمويل قطاع الصحة في تونس يتوزع بين وزارة الصحة (28%) والصناديق الاجتماعية (35%) ثم المواطن (37%) بالرغم من أن "ميزانية الوزارة وإيرادات الصناديق الاجتماعية مصدرها المواطن، أيضا".

كما يقول الجلاصي، الذي يعمل في قطاع الصيدلة، إن "ميزانية وزارة الصحة تراجعت خلال الأعوام القليلة الماضية، لتستقر عند 5% من إجمالي ميزانية الدولة"، مشيرا إلى أن الحد الأدنى لنسبة ميزانية الصحة بموجب المعايير الدولية هي 7% من ميزانية الدولة.

وحذر الجلاصي من أن 60% من مدفوعات الصندوق الوطني للتأمين على المرض توجه نحو القطاع الخاص، رغم أن 60% من المساهمين في الصندوق يعملون بالقطاع العام.

حلول عملية

واقترح الجلاصي "رقمنة" القطاع الصحي، وذلك بإدخال نظام بطاقات ذاتية من شأنها أن توفّر نحو خمسة ملايين دولار سنويا، على حدّ قوله.

كما شدّد على ضرورة فرض ضرائب على سلع بدلا من دعمها، مثل السكر، وكذلك على المشروبات الغازية، للحدّ من الخسائر وتوعية المواطنين بأضرارها.

لكن في الشارع التونسي، باتت هناك قناعة بأنّ الخدمات الصحية الحكومية قد تدهورت بالفعل بشكل يصعب تجاوزه، دون إرادة حقيقية من السلطات.

وأطلق أطباء حملة على شبكات التواصل الاجتماعي تحت شعار "افضح المستشفى الذي تعمل به"، في محاولة لإطلاع الرأي العام على الظروف التي يعملون بها.

وأوضحت صور للحملة مظاهر صادمة لانعدام النظافة بمراكز صحية وتراجع مستوى سلامة معدّات.

وقال رئيس المنظمة التونسية للأطباء الشبان، عبر صفحته بموقع فيسبوك، إن المبادرة تهدف أساسا "للدفاع عن حق أبناء شعبها في صحة عمومية راقية والتصدي للتدمير الممنهج الذي تتعرض له"، داعيا التونسيين "للاتخراط في الحملة ودعمها في جبهة واحدة".