"أنا أيضا" على الطريقة التونسية
Getty Images

"منزل جدتي الذي كان مصدرا للأمان والحنان، بات المكان الأكثر رعبا. فيه تعرضت لأفظع الانتهاكات". بهذه الكلمات تروي مدونة تفاصيل اعتداء خالها عليها جنسيا وهي في سن الست سنوات.

وتمضي الراوية قائلة: "نظرا لانشغال أبوي، كانت والدتي تتركني عند جدتي. وكان خالي يجردني من ملابسي وعندما يفرغ كان يهدنني كي لا أبوح بما فعل".

لا تزال الشابة تشعر بتأثير تلك الاعتداءات عليها حتى هذا اليوم، إذ ترفض فكرة الزواج والإنجاب خوفا من تعرض أطفالها لمثل تلك الاعتداءات.

قصة أخرى تكشف عن تعرض فتاة للتحرش الجنسي وهي في عمر الخامسة عشر.

وتقول: "في القطار وضع أحدهم يده فوق كتفي، وتعمد لصق عضوه الذكري، وكلما حاولت الابتعاد اقترب أكثر".

وفي النهاية صرخت في وجهه واحتدم العراك بينهما. هددته بالشرطة مستنجدة بالركاب كشهود، لكنهم لم يحركوا ساكنا واكتفوا بالمشاهدة.

"اكتشفنا أنه تحرش بكل أطفال العائلة"

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي تعرضت لها تلك الفتاة بل واجهت أسوأ منها، لكنها فضلت إخفاءها عن أهلها خشية توجيه اللوم لها، حتى قررت الخروج عن صمتها ومشاركة حكايتها مع المنخرطين في صفحة "أنا زادة" (أنا أيضا باللهجة التونسية).

اختزنت هذه الصفحة شهادات مرعبة وصادمة لفتيات، بل ولفتيان، تعرضوا للتحرش في سن مبكرة جدا.

وعلى غرار الحالات السابق ذكرها، لجأت كثيرات إلى صفحة "أنا زادة" على موقع فيسبوك ليتخففن من عبء حملنه لسنوات، وسردن معاناتهن دون كشف هوياتهن.

وكان القاسم المشترك بين الضحايا أن المتحرشين بهم أشخاص تفترض فيهم الثقة أو يستبعد أنهم يشكلون خطرا على الأطفال، كالأقارب والجيران.

وتكشف القصص المنشورة عبر تلك الصفحات انتهاكات جسيمة للجسد تحدث خلف الأبواب المؤصدة أو في الفضاء العام.

فتاة تزور أقاربها فيتحرش بها رجل البيت، أو اغتصاب طفل من حارس مدرسة، وفتاة سمراء استضعفت وتعرضت للتحرش بسبب لون بشرتها، أو تحرش زميل بزميلته في العمل، وغيرها من الحالات.

والغريب أن ضحايا التحرش تحولوا إلى متهمين رغم صغر سنهم، إذ يتحدث كثيرون عن شعورهم بالإحباط بعدما اتهمهم ذووهم بالكذب وبتلفيق القصص.

وفي هذا الإطار تقول إحداهن: "عندما كنت صغيرة تحرش بي زوج عمتي. كان يتلمس كل منطقة في جسدي. لم أقم بردة فعل وقتها ولم أشتك لأحد، لكني تشاركت السر مع ابن عمي الذي كان ضحية نفس الشخص. قررنا أن نحكي لعائلتنا الكبيرة، اكتشفنا أنه تحرش بكل أطفال العائلة. واجهته العائلة بسلوكه المشين ولكنه تمسك بالبراءة، وفي نهاية المطاف اختارت الأسرة علاقات القرابة والمصاهرة ودفن الموضوع".

(تفاصيل الحالات السابق ذكرها على عهدة رواتها).

كيف بدأت الحملة؟

استلهم القائمون على حملة "أنا زادة" فكرتهم من حملة "Metoo" التي انطلقت عام 2017 في الولايات المتحدة الأمريكية، عقب الكشف عن تورط المنتج السينمائي الأمريكي المعروف هارفي واينستن في التحرش بالعديد من الممثلات.

وانتشرت الحملة التونسية إثر ظهور عضو مجلس منتخب حديثا في مقطع فيديو انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهو "يمارس العادة السرية في سيارته أمام معهد ثانوي للفتيات"، بحسب ما ذكره نشطاء.

ورغم أن المتهم في القضية أنكر ما نسب إليه من اتهامات متعللا بأنه مصاب بالسكري واضطر للتوقف والتبول في قارورة داخل سيارته، إلا أن القصة تحولت إلى قضية رأي عام لا تزال النيابة العمومية تحقق فيها حتى كتابة هذه السطور.

وتحدثت مدونة بي بي سي ترند مع سونيا بن ميلاد الناشطة النسوية في منظمة "أصوات نساء"، الجمعية الحقوقية التي تبنت حملة "أنا زادة".

وتقول سونيا لبي بي سي: "أردنا في البداية إنشاء صفحة للدفاع عن الفتاة التي كشفت قصة النائب، خاصة بعد تعرضها لضغوط شديدة. لكننا تفاجأنا بعدد هائل من النساء والرجال يقدمون شهاداتهم بشكل عفوي وتلقائي".

وقد بلغ عدد المشاركين في الصفحة 21 ألفا في أقل من شهر. لا يزال 10 آلاف شخص ينتظرون الموافقة على طلبهم الانضمام للمجموعة المغلقة.

وتلقت جمعية "أصوات نساء" أكثر من 70 ألف شهادة.

وتبعا لذلك، أنشأت الجمعية مجموعات دردشة مع متخصصين لتوفير دعم نفسي للضحايا ولمساعدتهم على تحصيل حقوقهم.

كما تعتزم الجمعية تنظيم وقفة احتجاجية أمام البرلمان لتسليط الضوء على هذه القضية.

ماذا بعد الاعتراف؟

ويرى نشطاء أن حملة "أنا زادة" نجحت في "كسر المحظور وإنهاء سيطرة الخطاب الذكوري الذي يتحجج بغياب الوازع الديني أو اندثار التقاليد ويعتبرها سببا في انتشار التحرش لدحض اللوم عن المتحرشين".

تشيد الناشطة النسوية والطبيبة النفسية، أحلام بلحاج، بحملة أنا زادة وتراها دليلا على الوعي.

لكنها تقول في حديثها لمدونة بي بي سي ترند: "هذه الحملة حلقة أخرى من حلقات كسر جدار الصمت الذي نحاول هدمه منذ سنوات. التعريف بحجم الاعتداءات الجنسية أصبح أمرا سهلا وضروريا بوجود وسائل التواصل".

وتؤكد أحلام أن التعامل مع هذه الجرائم يجب ألا يقتصر على مراكز الشرطة أو القضاء، إذ تشدد على إنهاء ما وصفتها بـ "ثقافة الخوف التي تسعى إلى التغطية على هذه الحوادث خشية الفضيحة".

وتضيف: "المشكل متجذر في الأسس العميقة لمجتمعنا. أصبحنا نفصح عن هذه القضايا اليوم لكن ماذا بعد؟ هل ستبقى حبيسة العالم الافتراضي؟".

ويرفض العديد من ضحايا التحرش إبلاغ الجهات المعنية بمشكلاتهم بحجة أن "رجال الأمن أنفسهم لا يتعاملون بجدية مع هذا النوع من الشكاوى".

تقول إحدى ضحايا التحرش: "كيف تطلبون مني تقديم شكاية، عندما تدخل مركز الشرطة وتقص عليهم ما جرى، يقللون من الأمر ويطلبون منك العودة للبيت. عندما تأهلون أعوان الأمن، سأشتكي حينها".

لكن في هذا السياق تقول أحلام: "تعامل أعوان الشرطة مع ضحايا هذه القضايا تحسن كثيرا، خاصة بعد تشكيل وحدات أمنية مختصّة بالبحث في جرائم العنف ضدّ المرأة والطفل في 2017".

غير أن الناشطة ذاتها لا ترى تلك الخطوة كافية لمفردها لمعالجة تلك القضايا.

وتلفت أحلام النظر إلى أن إرساء ثقافة العمل الجماعي وتقديم مشروع حقيقي يرتقي بتفكير المواطن سيحد من هذه الجرائم التي لا تقتصر على تونس فقط.

من جهتها، أكدت جمعية "أصوات نساء" أن كثيرات من الضحايا عبرن عن رغبتهن في تقديم شكاوى قضائية بعد الاطلاع على شهادات لأخريات والدعم النفسي الذي تلقينه من المتخصصين.

"جهود حثيثة"

ويعرّف القانون التونسي التحرش بأنه "الإمعان في مضايقة الغير بفعل أو قول أو إشارة من شأنها أن تنال من كرامة الفرد، أو أن تخدش حياءه، أو ممارسة ضغوط قد تضعف إرادته على التصدي لرغبات المتحرش".

ويعاقب القانون التونسي مرتكبي جريمة التحرش بالسجن مدة لا تقل عن عام أو بغرامة مالية قدرها ثلاثة آلاف دينار (1050 دولارا أميركيا).

وتشير إحصائيات رسمية نشرت نهاية 2018، إلى أن 43.8 بالمائة من النساء تعرضن للتحرش الجنسي. وقد تعرضت 90 في المائة منهن للتحرش الجنسي في وسائل النقل العمومي أو الأماكن العامة.

كما تعرضت 75.4 في المائة من التونسيات للتحرش الجنسي من قبل زملاء لهن في العمل.

ولمحاربة التحرش في الفضاء العام، أطلقت وزارة المرأة تطبيقا يتيح لضحية التحرش أو للشهود تحديد مكان وزمان ونوعية الإعتداء وتشغيل صوت عال لإحراج وإخافة المتحرش وتذكيره بالعقوبة.