مرسيليا: من مرسيليا، عاد "قطار الساحل الأزرق" يشق طريقه على جرف البحر الأبيض المتوسط، إذ إن خط السكك الحديد هذا الذي تولى بناءه قبل نحو قرن عمال معظمهم من المهاجرين، عاد إلى الحياة بفضل أشغال إعادة تأهيل بدت أشبه بالبهلوانيات.

منذ نهاية أبريل الفائت، وبعد ثمانية أشهر من التوقف بسبب الأشغال، عاد صوت مذيعة الإعلانات في الشركة الوطنية الفرنسية للسكك الحديد يعدد أسماء البلدات الساحلية التي ألهمت أعمال كبار الرسامين والأدباء والسينمائيين كسيزان وجان رينوار ومارسيل بانيول، ومنها ليستاك ونيولون وأنسوييه لا رودون وسواها.

ينطلق القطار الإقليمي السريع ذو اللونين الأزرق والأبيض من مرسيليا، مبتعداً عن المباني والاختناقات المرورية والحاويات في ميناء ثاني أكبر مدن فرنسا، لتبدأ رحلته وسط مشهد طبيعي صافٍ من مكوّنين: البحر من جهة، وسلسلة جبال نيرت من الجهة الثانية.

وما يتخلل الرحلة من "تناوب بين الأنفاق ، ومشهد البحر الأبيض المتوسط، والقرى التي تتوزع في الجبال"، يشكّل نوعاً من "السحر" يُذهل النحال المقيم في هامبورغ (شمال ألمانيا) بنوا لارشيه الذي قرر مع صديقه الألماني فيبكي دوشر زيارة الساحل الغربي لمرسيليا من دون سيارة.

أما إريك بارون، المدير التنفيذي لشركة السكك الحديد التي تتولى منذ أعوام تدريب سائقي هذا الخط البالغ طوله 32 كيلومتراً بين مرسيليا وميراما، فيقول "أكثر ما يثير إعجابي هو التباين في الأضواء والألوان، بين اللون الأبيض للحجر الجيري في بداية ليستاك ثم اللون البرتقالي في أنسوييه لا رودون، فزرقة (...) البحر والسماء".

أسس بارون أيضاً جمعية "صوت الساحل الأزرق" التي تعنى بالدفاع عن هذا الخط الذي تنقل قطاراته يومياً ما بين 1300 و 1500 راكب، 62 منهم سياح، بينما الآخرون يتوجهون من مقار عملهم إلى منازلهم، إذ تشكل رحلات هذا الخط مناطق صناعية.

على مدى قرن، شهدت فرنسا التي كانت في ثلاثينات القرن العشرين تمتلك واحدة من أكثر شبكات السكك الحديد كثافة في أوروبا، توقف نحو 20 ألف كيلومتر من الخطوط عن الخدمة، على ما يوضح الباحث في الجغرافيا إتيان أوفان.

لو لم يتم فعل أي شيء، لكان من المحتمل أن يقفل خط "الساحل الأزرق" على نحو دائم سنة 2023، وفق ما يشرح رينو موزولييه، رئيس منطقة بروفانس ألب كوت دازور.

لكن هذا الخط التاريخي العريق الذي أنشئ بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أُنقِذ في نهاية المطاف، بفعل الاهتمام المتجدد بتراثه المعماري الغني، ومن جهة ثانية بالسكك الحديد في خضم مرحلة التحول البيئي.

ويتألف المسار من 23 نفقاً و18 جسراً. وكانت ورشة إنشائه عملاً جباراً نظراً إلى موقعها بين صخور الجبل ومياه البحر. ويروي المؤرخ لوي روبو في كتابه "خط السكة الحديد من الساحل الأزرق إلى سهل كرو" أن عمالاً كثراً قتلوا جرّاء حوادث سقوط الصخور والحجارة أو السقالات.

ويشير المؤرخ إلى أن الجهات التي كانت تتولى تنفيذ المشروع استعانت بشكل كبير بالمهاجرين الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين والقبائليين من الجزائر الذين كانوا ضحايا "كراهية الأجانب التقليدية".

في فيلمه "توني" (1935) الذي تناول الظروف القاسية لحياة المهاجرين في فرنسا ، صور جان رينوار مشهداً شهيراً على خط الساحل الأزرق، وتحديداً على جسر كارونت الفولاذي المثير للإعجاب ، في مارتيغ.

وتتخلل الخط الذي أُنجِز بناؤه عام 1915 "روائع من الحجر" مثل جسر "أو ساليه" الذي يربط تلين بفضل قوس فريد نصف دائري بطول 50 متراً صممه بول سيجورنيه، مهندس ومصمم جسر أدولف الضخم في لوكسمبورغ .

ويصر إريك بارون على أن "من المهم جداً الترويج لهذا التراث الاستثنائي ، ولكن من دون نسيان العمل الشاق الذي قام به أولئك الذين تولوا بناءه".

بعد نحو 105 سنوات، أعادت شركة السكك الحديد الفرنسية تأهيل 24 كيلومتراً من الخط، واستخدمت جزئياً مواد أعيد تدويرها، ودعّمت جسوراً وجدراناً قديمة، في عمل وُصف بأنه "بهلواني".

وتشرح مديرة المشروع سيسيل تريول لوكالة فرانس برس إن "المواد نقلت إلى الموقع ومنه بواسطة المروحيات، ونفّذ العمل على المنحدرات الصخرية على طريقة + متسلقي الجبال+".

وتجاوزت تكلفة المشروع 46 مليون يورو، معظمها وفّرتها سلطات المقاطعة (19 مليون يورو)، في حين أمّنت شركة السكك الحديد 14,4 مليوناً. ومن المقرر تنفيذ مرحلة ثانية في فترة 2026-2027 على أن يبلغ إجمالي الأموال التي تكون قد استثمرت فيه بحلول 2032 نحو 157 مليون يورو.

ويدعو النائب الأول لرئيس بلدية مارتيغ هنري كامباسيد إلى تسيير مزيد من القطارات خلال النهار، إذ يرى أن "هذا الخط يُعدّ، إلى جانب المناظر الخلابة والسياحية،عنصراً مهماً في الحد من البصمة الكربونية" لسكان منطقة مرسيليا الكبرى.