دائمًا ما ارتبطت التربية بسلسلة من الإسقاطات والنماذج التقليدية التي تنظم طبيعة العلاقة الدقيقة بين الأهل وأطفالهم، لكن دراسة حديثة أظهرت بأن هذا الإلتزام الحازم قد يولّد أطفالًا ملتزمين ومتفوقين، لكنه لن يرفعهم إلى مرتبة الخلّاقين المبدعين الذين يحدثون تغييرًا عميقًا وملموسًا في مجمل مسيرتهم المستقبلية.
إعداد ميسون أبو الحب: كثيرًا ما نلتقي أسرًا تفخر بأطفالها وبذكائهم وبأدائهم الجيد في المدرسة، وأسرًا اخرى تعتبر نفسها غير محظوظة لأن اولادها لا يبدون ذكاءً خارقاً او بروزًا عظيمًا في المدرسة، كما وأنهم لا يتبعون الضوابط كما يجب. ولكن، هل تستدعي الحالة الاولى فخرًا عظيمًا، والحالة الثانية احساسًا عميقًا بالاحباط؟
يعتقد آدم غرانت، بروفسور في الادارة وعلم النفس في كلية وارتون في جامعة بنسلفانيا، أن الحالتين لا تستدعيان ما تثيران من ردود فعل لدى الاهل، وأعطى مثلا اهم مسابقة علمية في الولايات المتحدة، وهي "مسابقة وستنغهاوس للمواهب العلمية"، التي بدأ العمل بها في عام 1942، وتركز على اكتشاف العبقريات والمواهب العلمية في الصفوف المنتهية من المرحلة الثانوية.
هذه المسابقة كشفت عن أكثر من 2000 موهوب وصلوا الى المرحلة النهائية في المسابقة منذ تأسيسها حتى عام 1994. ولكن 1% فقط منهم وصل الى اكاديمية العلوم الوطنية وثمانية فقط منهم حصلوا على جائزة نوبل. وهذا يعني ان الاطفال الموهوبين نادرًا ما يصبحون عباقرة يغيرون العالم عندما يكبرون.
وهنا قد يعتقد البعض ان ظروفًا اجتماعية ونفسية وعاطفية ربما منعتهم من ذلك، لكن دراسات اظهرت أن هذا غير صحيح، وان كل شيء حولهم كان جيدًا ولا يشكل أي نوع من الاعاقة.
ما السبب اذن؟
يرى الخبير غرانت أن ما يمنعهم هو انهم لا يتعلمون كيف يكونون هم انفسهم، ويضيف: "هؤلاء اطفال كانوا يسعون الى الحصول على رضا اهلهم وعلى اعجاب معلميهم، لكنهم لا ينتجون أي شيء انطلاقًا من افكارهم الخاصة".
وقال الخبير لصحيفة نيويورك تايمز: "يمكن للموهوب ان يعزف موسيقى موزارت، ولكنه نادرًا ما يؤلف موسيقاه الخاصة. هؤلاء يركزون فقط على استيعاب المعلومات المتوفرة ولكنهم لا ينتجون أي جديد".
ورأى الخبير ايضا ان هؤلاء الاطفال غالبًا ما يكونون من المطيعين الذين لا يسعون الى كسر القواعد ومخالفة الضوابط الموضوعة ولا يحاولون فرض ضوابطهم الخاصة.
وقالت عالمة النفس ايلين وينر: "اظهرت دراسات أن هؤلاء الاطفال يكونون من المتميزين في مجال عملهم ومن العناصر القيادية في منظماتهم عندما يكبرون، ولكن فئة قليلة منهم تأتي بالجديد". وأضافت: "قد يصبحون اطباء ممتازين، ولكنهم لن يحاولوا تغيير النظام الطبي القائم، او محامين كبارًا ولكنهم لن يحاولوا اضافة شيء الى القوانين القائمة".
كيف نربي مبدعين؟
أظهرت دراسة اجرت مقارنة بين أسر اطفال مبدعين ومجددين واصحاب افكار ثورية وأسر أطفال اعتياديين. وظهر ان اسر الاطفال الاعتياديين تفرض عددًا اكبر من الضوابط والقواعد على اطفالها يصل عددها الى ستة احيانًا مثل تحديد موعد معين لأداء الواجبات المدرسية او للنوم.. الخ.. اما اسر الاطفال المبدعين فقواعدهم اقل عددًا.
والنتيجة التي توصل اليها خبراء هي ان ترك الطفل يكوّن طريقته الخاصة في التفكير دون ضوابط قمعية كثيرة يدفع الطفل الى الابداع مع تركيز الاهل بالطبع على تلقينه الاخلاق المعنوية بشكل عام، حسب قول عالمة النفس تيريزا امابايل من جامعة هارفارد.
ولكن دراسات اخرى أجريت على مبدعين حقيقيين وعلى اسرهم وعلى الطريقة التي تربوا بها، لاحظت ان اسرهم سمحت لهم ايضا بتطوير دليل سلوك خاص بهم.
ومن المؤكد ان اسرهم شجعتهم على ان يكونوا ممتازين وناجحين، ولكنها شجعتهم ايضًا على ان يشعروا بالتمتع بما ينجزون ويفعلون وتركت لهم حرية خلق قيمهم الخاصة واكتشاف مصلحتهم بأنفسهم، وهذا ما جعل شخصياتهم تزهر لتخلق منهم كبارًا ناضجين مبدعين.
ساندوهم ..
وأشار تقرير نيويورك تايمز الى دراسة أجراها عالم النفس الشهير بنيامين بلوم على جذور كبار الموسيقيين والفنانين والرياضيين والعلماء في العالم، وتوصل بها الى ان اسرهم ما كانت تحلم ان تخلق منهم عباقرة مبدعين، ولكنها ساندت اولادها في الاتجاه الذي اختاروه.
ولاحظ التقرير من جانب آخر الى اعتقاد البعض ان عدد الساعات التي يمضيها الطالب في الدراسة هي التي تحدد مستواه، غير ان الخبير غرانت نبّه الى أن الممارسة كلما كثرت وطال زمنها ضيقت من عقل صاحبها وحددت طريقة تفكيره.
ونقل التقرير عن البرت اينشتاين كيف ان النظرية النسبية برزت في ذهنه مثل حدس، بينما كان منغمسًا في سماع موسيقى. اينشتاين قال ايضا "الحب معلم افضل من الاحساس بالواجب".