غادر الصحافي المصري محمد حسنين هيكل الدنيا الأربعاء عن 93 عامًا بعد معاناة مع المرض، فترك وراءه إرثًا صحافيًا عريضًا، لا يتوافق الجميع على توصيفه، أو على تقويمه سلبًا أو إيجابًا.
&
الصحافي الروائي
&
إن كان أشهر صحافيي مصر يملك كفاءة عالية في مهنة الصحافة، وفي التأثير في إعلام القرن العشرين، وهو الذي عاصر الصحافة المكتوبة ثم الإذاعة والتلفزيون، فإن مهنيته وحسن أسلوبه سجلا ضعفًا مشهودًا على سلم المصداقية، والاحترام المهني، والخيال الروائي الذي يبدو.
&
فقد بدأ هيكل الكبير حياته مترجمًا للروايات البوليسية، كروايات شيرلوك هولمز. ويبدو أنه تأثر عميقًا بها فخلقت فيه حسًا دراميًا ما أحسن استثماره في حياته الصحافية-السياسية، إذ أتقن فن تجويد القصة وتأكيدها وفق قواعد التوثيق المتعارف عليها.
&
لا شك في أن الحظ واكب هيكل، المولود في عام 1923، طوال حياته، وبقي ملازمه إلى ثانية مماته؛ إذ كان آخر الراحلين من معاصريه، لذا واتته فرصة ثمينة ليكتب عنهم، ولينسب إليهم أقوالًا وأفعالًا، وليروي مواقف "حصلت" له معهم وهم تحت التراب، من دون أن يملكوا حق الرد عليه، شتمًا أو ثناءً، أو الدفاع عن أنفسهم أمام ما يسوقه ضدهم من تهم.
&
مهنية «الأستاذ»
&
وعند ذكر المهنية، لا مفر من تذكر مسألة على جانب كبير من الأهمية: تشوهت مهنية أجيال عدة من أبناء الصحافة بفعل مدرستين تنتميان إلى بيت واحد، هو بيت أمين. فقد ذهب مصطفى وعلي أمين إلى إنكلترا وخاضا تجربة صحافة الإثارة والمبالغة، بل صحافة الرصيف البريطانية، بحسب جريدتي «ذَا اكسبريس» و«ديلي ميرور»، فكانت «آخر ساعة» و«الأخبار» و«أخبار اليوم».
&
أنتجت هذه الصحافة صحافيًا صار «الأستاذ» في ما بعد، لكن نشبت الحرب الضروس بين هيكل والأخوين أمين، استخدم الطرفان فيها الأسلحة الرديئة والقاتلة كلها، وانتهى الأمر بسجن مصطفى أمين بسبب وشاية اتهمه فيها هيكل بالعمل لحساب الاستخبارات الأميركية، والتي أوردها في ما بعد كتابه الشهير "بين الصحافة والسياسة"، الذي أصدره في عام 1984. وظلت الخصومة قائمةً حتى وفاة مصطفى أمين. كما غادر علي أمين مشردًا خارج مصر حتى مات، ولم يكتب تلميذهما «الاستاذ» حرفًا واحدًا في رثائهما.​
&
الغزل المستمر
&
ما غادر هيكل عهدًا في مصر إلا وغازله، بطريقة أو بأخرى، إذ ما أحب المعارضة، ومتى اضطر إليها نأى بنفسه والتزم الصمت والحياد، وربما لم يحصل ذلك في العام الذي حكم فيه محمد مرسي الاخواني مصر بعد ثورة 25 يناير. فهيكل عاصر ملكًا واحدًا وخمسة رؤساء جمهورية. نسج الكثير في غزل الملك فاروق من دون أن يعيره «مولانا» أي اهتمام، وتقرب إلى جمال عبد الناصر ملتصقًا بثورة 23 يوليو، لكن أنور السادات أبعده عن رئاسة تحرير جريدة «الأهرام» بعدما كانت برجه العاجي وحصنه المنيع، في إثر خلاف مع الرئيس على ما آلت إليه الحال بعد حرب عام 1967.
&
حاول التقرب إلى حسني مبارك لكن هذا الأخير همّشه، كما نجح في التقرب إلى الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في البداية لكن انقلب الأمر ضده. وفي عهد الاخوان المسلمين القصير، صمت هيكل وابتعد غير عابئ بمحاولات محمد مرسي استمالته إلى صفه.
&
أنا هو!
&
ثمة من يظن أن علاقة هيكل بعبد الناصر أنموذجية، ينبغي إشباعها درسًا وتمحيصًا؛ إذ في طياته أدلة على أن هيكل أتقن أيما إتقان لعبة «وضع الصحافي في خدمة السياسي، ووضع السياسي في خدمة الصحافي» المزدوجة. فبحسب الصحافي محمد حماد، أدرك هيكل أن عبد الناصر يحتاج في موقعه المتقدم هذا إلى من يمده بالأفكار والأخبار، فأدى هذا الدور بتأن وتؤدة، وأحسن في أن يكون لسان عبد الناصر، الذي ما أخفى إعجابه بذلك، قائلًا مرات عدة: «هذا ما كنت أريد قوله». وهذا ربما زرع في نفس هيكل ما عدّه حقيقة من حقائق ثورة 23 يوليو، مفادها أن الرئيس عبد الناصر يحتاج إلى صحافي يعبر عنه، «وأنا هو هذا الصحافي»، بحسب هيكل.
&
يقال الكثير عن عروة وثقى بين هيكل وعبد الناصر رفعته إلى مصاف حكام مصر في حينها. أفلم تقل نوال المحلاوي، سكرتيرة هيكل وأمينة سره، للأديب الراحل يوسف إدريس إنها الرقم ثلاثة في مصر؟ وحين استغرب ادريس هذا الكلام واستوضحها سألته عمن يحكم مصر، فرد: «عبد الناصر». فأجابت بثقة: «وعبد الناصر في جيب الأستاذ هيكل، والأستاذ في جيبي». أن يكون هيكل في جيبها فهذا أمرهما وحدهما، أما أن يكون عبد الناصر في جيب هيكل، فهذا ما أثار الكثير من التساؤلات. وهذا ليس إلا مثالا بين أمثلة كثيرة، دالة على ما كان لهيكل من سلطان في عهد عبد الناصر.
&
شعرة معاوية
&
في توازنات القوى الدقيقة بين أركان ثورة 23 يوليو، كان هيكل مقربًا إلى السادات أيضًا، لكن هذا الأخير أخرجه من اللعبة السياسية بإخراجه من رئاسة تحرير الأهرام في عام 1974. فالسادات لم يرتح يومًا لسطوة هيكل في عهد سلفه، خصوصًا أنه لم ينس لحظةً واحدةً حين أجبره هيكل، وكان السادات يومها رئيسًا لمجلس الأمة المصري، على الاعتذار من صحافي في «الأهرام» غضب منه السادات بسبب مقالة عن البرلمان. كما لم ينس كيف تركه هيكل منتظرًا في صالة مكتبه في عام 1968 أكثر من 45 دقيقة، لتخرج بعدها المحلاوي نفسها وتخبره بأن «الأستاذ» لن يقابله، على الرغم من وجود موعد مسبق بينهما.
&
لم تنقطع شعرة معاوية بين الرجلين، فهيكل هو من سمى السادات «صاحب قرار أكتوبر العظيم»، نسبةً إلى حرب 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وعبور الجيش المصري قناة السويس إلى الضفة الشرقية. لكن ما إن استقرّ الحال للسادات في عام 1977 حتى بادر إلى إقصاء هيكل بشكل نهائي، فحبسه مع آلاف آخرين في حملة أيلول (سبتمبر) 1981 الشهيرة.
&
الفرص الضائعة
&
قتل السادات في عام 1981، وتولى مبارك سدة الرئاسة في مصر. لم يكن الود منسوجًا بين الرجلين، فمبارك ما وثق بهيكل يومًا، وبادله الآخر الشعور نفسه، حتى أنه هاجمه مرارًا، وهاجم نيته توريث حكم مصر لأولاده ابتداءً من عام 2002.
&
لكن مبارك لم يمنع هيكل من الكتابة، ولو كتب ضده. فبقي حرًا يهاجم آل مبارك، ويتهمها بالسطو على 100 مليار دولار حصلت عليها مصر بدلًا من مساهمتها في حرب تحرير الكويت. لم يتعرض هيكل واولاده للمضايقة، بل تمكن أولاده من العمل بحرية، وجنوا ثروات طائلة.
&
في عهد مرسي، كان هيكل شديد الانتقاد لعهد مبارك، لكنه كان حذرًا في إعلان دعمه لحكم الاخوان المسلمين، خصوصًا أنه في كل العهود التي سبقت كان يقف إلى جانب السلطات ضد الإخوان. إلا أنه بدأ «يحلحل» موقفه هذا، خصوصًا أن مرسي طلب مشورته في بعض المسائل، لكن حل يوم 30 حزيران (يونيو) فانقلب الوضع المصري رأسًا على عقب. فما كان من هيكل إلا أن مال مع ميل الأوضاع، فهو من قال إنه يرى في السيسي عبد الناصر آخر، وأكثر المؤمنين بأفكار عبد الناصر في مصر، خصوصًا أنه كان في حينه وزير دفاع. بادله السيسي بأوصاف سارة، إلا أن هيكل لم يكن في أي لحظة من اللحظات مقربًا إلى السيسي رئيسًا.​