إنها صحيفة ذات روح حقيقية ملموسة، والتحدي الأكبر هو ضمان نجاة هذه الروح في هذا الانتقال الأخير. هكذا يجمل سيمون كيلنير تاريخ صحيفة "إندبندنت" التي تولى تحريرها حتى يومها الورقي الأخير.
&
لندن: تمضي النسخة الورقية النهائية الأخيرة للصحيفة إلى المطبعة، فيجلس سيمون كيلنير، أقدم محرر فيها، متذكرًا لحظات قمة ولحظات حضيض شهدها مع الصحيفة طوال 30 عامًا، وأحلاها "لحظة الفخر" حين تعرضت لهجوم توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق.

القرار المفاجئ

في يوم أعلنت فيه "إندبندنت" البريطانية توقفها عن الصدور ورقيًا، لا ينظر كيلنير إلى الوراء كثيرًا، فـ"إندبندنت" ستستمر في الصدور إفتراضيًا، لكنه يتحسر على لحظة ما في نهاره، كانت تجمع أترابًا يفكرون بالاسلوب نفسه، ليمروا بتجربة مشتركة، أو ما يقال لها إجتماعات التحرير، فهذه صارت مجرد ذكريات، بعدما كانت "مطبخ" هذه الصحيفة منذ بدأت في عام 1986 مناهضةً لهيمنة حيتان الصحافة. وبعد 9193 عددًا، لن تكون "إندبندنت" في الأكشاك بعد اليوم.

معجزة كانت أن تستمر هذه الصحيفة في الصدور نحو 30 عامًا، وركنا هذه المعجزة عما توني أورايلي أولًا، وألكسندر ليبيديف آخيرًا. فأورايلي ثري عصامي امتلك سلسلة مربحة من الصحف في ايرلندا وجنوب افريقيا واستراليا، وتملك "إندبندنت" فعين كيلنير محررًا في أيار (مايو) 1998، ما فاجأ كثيرين، حتى أن بعضهم، مثل أندرياس ويذام سميث، وصف ذلك بالكارثة، ومثل ستيفين غلوفر الذي قال عن كيلنير إنه "لم يضع رجله حتى في مؤسسة تعليمية محترمة". ويضيف كيلنير أن أمه حتى فوجئت بقرار تعيينه هذا، وسألته أين ذهبت روزي بويكوت، واستحسنت انتقالها إلى "دايلي إكسبرس".

الروح الوثابة

كان في استقبال كيلنير، حين دخل رئيسًا للتحرير، مفاجأة كبيرة، فقد تراجع التوزيع اليومي تحت عتبة 200 ألف نسخة. ويقول في مقالة له نشرتها "غارديان" السبت: "قد تبدو قصة إندبندنت ثابتة هبوطًا، لكن الأمر ليس كذلك، فتاريخها يشهد نجاحات وإنجازات كثيرة، كما يشهد كوارث عديدة، ولو ظهرت أكثر من مرة واقفة على شفير الهاوية، إلا أن التصميم على الاستمرار والازدهار أبدع علامة فارقة اتسمت بها الصحيفة حتى يوم توقفها".

ولم تكن "إندبندنت" تبالي بالتفكير التقليدي والمحافظ، بل كانت مجددة تسعى إلى الابتكار، فأصدرت طبعة "تابلويد" في عام 2002.

وفي عام 1986، ولدت الصحيفة قوية متمتعة بروح ويثام سميث الوثابة، الذي كان مصدر وحي لثقافة صحفية حبلى بتحدي الحكمة وبالأفكار المجنونة. تولّد جهد تعاوني استمر حتى النهاية. في البداية، كان هذا واضحًا في منح الأسهم لكل موظف من الموظفين، "وكنا أصحاب مصلحة، بكل معنى الكلمة، وفي كل صباح، كان الراحل إلكان آلان، رئيس تحرير قسم اللوائح (وهو قسم أبتكرته إندبندنت)، يمشي صعودًا وهبوطًا في القطار الذي يوصله إلى العمل ليحصي كم راكب يقرأ إندبندنت"، كما يقول كيلنير، "ليرسل المعلومة بالبريد الالكتروني لكل الموظفين".

القرار الابداعي الحاسم

في الأسبوع المنصرم، اصطف محررو "إندبندنت" كلهم ليستلموا جائزة رئيس مجلس الادارة، في جو مفعم بالاعتراف بالجميل، وبالفخر بالانجازات المحققة، وبالتحية الحرة الموجهة إلى جهود الصحفيين الجبارة. إلا أن التصفيق، على حماوته، كان يشي بالقليل من القلق في شأن المستقبل، وبالتساؤلات عن الوجهة التي سترميهم إليها أمواج التغيير العاتية.

حين استلم أمول راجان، كبير المحررين في الصحيفة جائزته، اطلق دعابة محزنة: "إنها الجائزة التي نستلمها في مناسبة إغلاق الصحيفة". رنّت هذه الدعابة في أذن كل من كان حاضرًا، خصوصًا أنهم جميعًا قضوا الساعات الطوال خلف مكاتبهم كي تبقى "إندبندنت" على قيد الحياة.

يتذكر كيلنير كل التحديات التي واجهها، والصعوبات التي تغلب عليها مع فريق من الصحفيين والمحررين، خصوصًا أن أورايلي الثري كان صامدًا وراءه، يدعمه برفع ميزانية الصحفية، ويساعده في تنفيذ تغييراته.

ففي عام 2002، كان المسعى حثيثًا لوقف التدهور في أرقام التوزيع اليومي، وكان ذلك يحتاج إلى فكرة إبداعية، فكانت فكرة التحول إلى "تابلويد"، على الرغم من الخطر الذي رافق ذلك، لأنها خطوة لا يمكن التراجع فيها إلى الوراء، أي صارت بمنزلة خطوة "حياة أو موت" بالنسبة إلى "إندبندنت". وبعد خطوات ناقصة عديدة، خرجت تابلويد إندبندنت بشكلها النهائي، "وقدمنا في الوقت نفسه لقرائنا حرية الاختيار بين النسخة الكبرية ونسخة تابلويد في أكشاك الصحف، وبنهاية عام 2002، توقفنا عن إصدار النسخة الكبيرة"، كما يتذكر كيلنير.

الأسرة الداعمة

في الشكل الجديد، ارتفع توزيع إندبندنت بنسبة الثلث تقريبًا. كما ساهمت حرب العراق في بلورة هوية للصحيفة من جديد، من خلال صوغ سياسة خاصة بها، تميزت بمعارضة ما يحصل في العراق، اعتمدت على التقارير التي كان روبرت فيسك وباتريك كوكبيرن يرسلانها، وهذا ما ميزها عن الصحف الأخرى، فحصلت "إنبندنت" بفضل ذلك على لقب "صحيفة العام" في 2003.

غادر توني بلير رئاسة الوزراء عام 2007، لكنه قبل أن يغادر خص إندبندنت بنقد من نوع خاص، وصافًا "إندبندنت" بأنها "كناية عن نوع من الصحافة الحديثة قدمت الأنباء وكأنها تعليق، وبالتالي فشلت في تقديم تغطية متوازنة للحدث". يقول كيلنير في "غارديان": "كنت أشاهده على التلفاز فما صدقت ما قاله، ولم تكن تلك اللحظة لحظة فخر أبدًا، لكنه لم يكن عادلًا، على كل حال فعلنا ما كان صوابًا في نظرنا وأثبتنا أننا كنا على حق".

أمضى كيلير عامين مديرًا عامًا للصحيفة، ساعد خلالها في بيعها لأسرة ليبيديف، ثم عاد لفترة وجيزة محررًا في عام 2010. وبحسبه، أثبتت هذه الأسرة أنها من أفضل من امتلكوا "إندبندنت"، وعلى الرغم من ظهور يفغيني ليبيديف المتكرر في صفحاتها، فإنها تستحق قدرًا كبيرًا من الاحترام لدعم الصحفية في أصعب أوضاعها الاقتصادية. وحتى في هذه اللحظات العصيبة، فهذه الأسرة تدعم نقل الصحفيين البارزين – أمثال فيسك وكوكبرن وغريس دينت – إلى الطبعة الرقمية، علمًا أن لا دليل دامغ على أن عائدات هذه الطبعة ستقوم بأعباء الصحافة النوعية.

للحفاظ على الروح

بالنسبة إلى كيلنير، كان هناك بعض المبالغة في الإبلاغ عن توقف "إندبندنت"، فنشرت قطعة تقارن العاملين في الصحيفة بقدامى المحاربين في فيتنام. هذا ليس دقيقًا كما يقول، "فبدلًا من الزحف من خلال دلتا ميكونغ لتجنب الفيتكونغ، كنا في مكاتب مكيفة نقضي أوقاتًا ممتعة إلى حد ما، وكانت بعض الدموع المذروفة دموع تماسيح، وتحسر روبرت مردوخ لفقدان التنوع، وهو الذي كاد يقفل صحفًا عدة بسياسة التسعير التي اعتمدها".

مع ذلك، يختم كيلنير مقالته التأريخية لـ "إندبندنت" في "غارديان"، كثيرون سيحزنون لتوقف "إندبندنت" التي تميزت بقراء أخلصوا لها. في بعض النواحي، كانت "إندبندنت" دائمًا صحيفة افتراضية، لا تملك مطابعها ولا عربات نقل خاصة بها، لكن كان لها روح حقيقية وملموسة، والتحدي الأكبر هو ضمان نجاة هذه الروح في هذا الانتقال الأخير.
&
&