نصر المجالي: كشف مؤرخ أردني أن اتفاقية سايكس - بيكو بين بريطانيا وفرنسا ومشاركة روسيا القيصرية، والمتعلقة بتقاسم النفوذ في بلاد الشام والعراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى لم تنفذ في المنطقة العربية، وإن ما نُفذ كان اتفاقاً عقد بعد ذلك بين رئيس الوزراء جورج كليمنصو ورئيس وزراء بريطانيا لويد جورج في ذلك الوقت، ويُعرف تاريخياً باتفاق (لويد - كليمنصو).

وقال المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية الدكتور سعد أبو دية في لقاء منتدى الفكر العربي، مساء الأحد 9/7/2017، الذي أداره وشارك فيه الأمين العام للمنتدى الدكتور محمد أبوحمور، إنه حسب رواية رئيس الحكومة الفرنسي كليمنصو، فإن رئيس وزراء بريطانيا حينذاك لويد جورج وافق في نوفمبر 1918 على أن يكون لفرنسا حقوق إدارة في سوريا كلها، وليس على الساحل فقط، مقابل أن يكون لبريطانيا حق في الموصل، وفي فلسطين، مما لم يرد ذكره في اتفاقية (سايكس- بيكو) عام 1916 كما يظن الناس.

وقال د. أبو دية إنه لإعطاء صورة واضحة عما حدث، ينبغي أن أشير إلى مؤامرات الحلفاء في أثناء الحرب العالمية الأولى، ذلك أن فرنسا وبريطانيا وروسيا كانت تتباحث خلال هذه الحرب في موضوع تقاسم البلاد العثمانية وبخاصة المنطقة العربية، وكان يمثل فرنسا في ذلك الحين فرنسوا جورج بيكو قنصل فرنسا السابق في بيروت والسكرتير الأول في السفارة الفرنسية في لندن، ومن الجانب البريطاني مارك سايكس.

موافقة فرنسا

ونوه المحاضر بأنه بصعوبة وافقت فرنسا أمام بريطانيا على إعطاء العرب الاستقلال في مناطق داخلية هي حلب وحمص وحماه ودمشق، فيما كانت بريطانيا تسعى لإيجاد منطقة تخضع لحكمها في البصرة وعكا وحيفا، بينما يخضع الساحل السوري وكليكيا للحكم الفرنسي المباشر وجزء آخر من سوريا يخضع للإشراف الفرنسي والبريطاني.

وكانت الموصل من حصة فرنسا، ولم تكن بريطانيا حتى ذلك الوقت تريد اتصالاً برياً مع روسيا، وقد صممت التقسيم على ذلك الأساس، وفي 5/1/1916 أسفرت اجتماعات بيكو وسايكس عن تفاهم وذهبا بعد ذلك إلى روسيا للتفاوض حول حصص الثلاث بعد انهيار السلطة العثمانية في البلاد العربية.

وقال الدكتو أبو دية إنه في 16/5/1916وافقت بريطانيا على نصوص الاتفاقية وهي إنشاء دولة عربية مستقلة في منطقة (أ) تضم الموصل وحلب وحماه وحمص ودمشق، وأما منطقة (ب) فتضم كركوك وشرقي الأردن والنقب والعقبة، ووفق ذلك يكون لفرنسا الأولوية في تقديم المستشارين في منطقة (أ) وبريطانيا في منطقة (ب)، ويخضع الساحل السوري للحكم الفرنسي المباشر من الأسكندرونه شمالاً وحتى صور جنوباً، وتخضع بغداد والبصرة للحكم البريطاني المباشر.

دولة فلسطين

وبموجب الاتفاق مع روسيا القيصرية وبقية الحلفاء، قال المحاضر كان القرار أن تُنشأ دولة فلسطين، وتأخذ بريطانيا ميناءي حيفا وعكا. ولم يعرف بتفاصيل الاتفاقية أحد من العرب حتى نشرتها جريدة "المستقبل" الفرنسية في منتصف عام 1918، وهكذا حالت هذه الاتفاقية دون تأسيس دولة عربية كما كان يطالب به الشريف الحسين بن علي زعيم الثورة العربية الكبرى، ومع ذلك فإن تغييراً حصل على هذا الاتفاق بعد خروج روسيا القيصرية وأن المنطقة تقسمت على غير ما جاء في اتفاقية (سايكس- بيكو)، ومن أبرز ما اتفق عليه كليمنصو ولويد جورج ضم ولاية الموصل للعراق، وإخضاع فلسطين بأكملها للحكم البريطاني ما سهل إعطاء اليهود وعد بلفور، وكذلك أن يشمل الانتداب الفرنسي سوريا كلها عدا فلسطين، ما يتناقض أيضاً والوعود التي أعطيت للعرب بالحرية والوحدة والاستقلال خلال الحرب العالمية الأولى.

الوثائق التاريخية

وكان الأمين العام للمنتدى الدكتور محمد أبوحمور، أشار في كلمته التقديمية للقاء إلى ضرورة الاهتمام بالجانب المتعلق بدراسة مضامين الوثائق التاريخية ووقائع الأحداث الكبرى التي رسمت مسار المنطقة العربية خلال العصر الحديث؛ موضحاً أن إعادة قراءة التاريخ ليست مسألة ترف فكري، وإنما هي محاولة لإضاءة الجوانب المنسية والمهملة من الذاكرة التاريخية من أجل فهم ما يجري الآن.

وأضاف د. أبوحمور أن الأحداث التاريخية لها أسباب ومقدمات ونتائج ينبغي استيعابها بدقة لندرك موقعنا نحن العرب من حركة التاريخ، وأن ما ترتب على اتفاقات القوى الدولية كان في النتيجة أكبر تقسيم تعرضت له الأرض العربية نتيجة الأطماع الاستعمارية، وأدت التداعيات إلى نشوء مأساة فلسطين وزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وما زلنا حتى اليوم نعيش هذا الاضطراب وعدم الاستقرار والمآسي التي وضع الاستعمار الأجنبي بذرتها في البداية، ثم عمل اختلاف السياسات العربية والمصالح الآنية والضيقة، والتغذية لها من قبل القوى الطامعة، وخاصة إسرائيل، على مزيد من التشرذم والتفتت.

التاريخ لا يعيد نفسه 

وقال د. أبوحمور: إن التاريخ غالباً لا يعيد نفسه، لكن العبرة من التاريخ ضرورية في مثل هذه الأيام التي ما زالت المنطقة العربية تعيش تداعيات ونتائج الربيع العربي، وموجات التطرف والعنف والإرهاب، والمؤشرات الواضحة على التوجه لإعادة تقاسم النفوذ في هذه المنطقة بين قوى إقليمية ودولية، وفي ما نراه من دويلات وكانتونات بدأت تبرز هنا وهناك، وأحاديث ومعانٍ مبطنة عن خريطة جديدة تُرسم للمنطقة، وتحالفات وصفقات جديدة؛ موضحاً أن مسؤولية مؤسسات الفكر والدراسات والأبحاث أن تنشط وتنبه الوعي العام، وتبدد ما تستطيع من الضباب الذي يحول دون إبصار الحقائق أو حتى أطرافها.