الرباط: يختلف سؤال استطلاع "إيلاف المغرب" الأخير ، عن سابقيه، منذ إطلاق الموقع، في كونه يتعلق بقضية اجتماعية شديدة السخونة كانت مدينة "الحسيمة" في شمال البلاد مسرحا لها .

ورغم أن الاحتجاجات اتسمت بالطابع الاجتماعي ولم تتعد المدينة الشاطئية وبلدات قريبة منها ، في حين ظلت بقية أجزاء الريف هادئة على العموم ؛ فإنها أي الاحتجاجات أسالت حبرا غزيرا وأثارت ردود فعل إعلامية وحقوقية داخل وخارج المغرب ، تراوحت بين الاستنكار وتوجيه النقد بل الاتهام للسلطات العمومية ؛ فقد جزمت تلك المنظمات الحقوقية أن السلطات أفرطت في استعمال القوة ، بينما تحفظت تقارير مستقلة ومحايدة عن الاتهام والتعميم ؛وسجلت بعض التقارير أن المحتجين هم الذين تصرفوا بعنف ضد قوات الأمن، بالشتائم أولا ، ثم رميها بالحجارة ، منذ انطلاق الحراك ،ما فرض على هذه الأخيرة الدفاع عن النفس وتأكيد هيبة الدولة .

وبما أن زمن الاحتجاج امتد لمدة جاوزت نصف السنة ، اندلعت شرارته الأولى منذ وفاة بائع السمك، محسن فكري، الذي لقي حتفه في حاوية قمامة، في حادث مأساوي، أحاط به الغموض، لأن كشف الحقيقة يزعج كل الأطراف بمن فيهم الضحية نفسه الذي لم يقدر عواقب فعله المتهور حين اعتصم بالحاوية ورفض مغادرتها، ومع ذلك أصبح أيقونة الاحتجاج ورفع إلى مرتبة الشهداء.

وكان من الطبيعي أن توجه "إيلاف المغرب" إلى قرائها المغاربة بعد اشتداد وتيرة القيل والقال، سؤالا واضحا وبسيطا : هل حراك الحسيمة ومناطق في الريف ، سلوك تلقائي عفوي ، تقف وراءه الوضعية الاقتصادية الصعبة بالمنطقة البعيدة عن آلة إنتاج الاقتصاد الوطني ، ما تسبب في ارتفاع معدلات البطالة بين صفوف الشباب ؛ أم تم التخطيط له من طرف جهات محلية ، ساندتها قوى خارجية، لها مصلحة في زعزعة استقرار المغرب وبث الفتنة بين سكان مناطق تقر الدولة المغربية أنها لم تنل بعد كل ما تستحقه من المشاريع المدرة للدخل، علما أن الجهود التنموية التي أمر بها الملك محمد السادس، منذ توليه الحكم ، فاقت في حجمها وفي سنوات قليلة ، كل ما رصدته السلطات للمنطقة منذ استقلال البلاد.

وفي هذا الصدد ، مال اغلب المستطلعين إلى ترجيح الاحتمال الأول، أي أن الاحتجاج حركته مطالب اجتماعية تمثلت في خلق فرص العمل وتمكين المنطقة من بنيات طبية وتجهيزات رياضية وتحسين الخدمات الإدارية والإسراع في تنفيذ المشاريع التي جرى تدشينها، لكنه خرج عن مداره السليم ، ليستغله من يضمر ثأرا للمغرب، وهذا ما غاب عن أقطاب الحراك الذين اتضح أنهم لم يكونوا على توافق فيما بينهم ، بسبب اختلاف الأجندات.

قاربت نسبة المؤيدين 78 في المائة ، قابلتها نسبة تجاوزت 18 في المائة من مجموع المستجوبين رأت أن الاحتجاجات ، ليست بريئة بالمرة ، بل دعمتها جهات معادية للمغرب ، نسقت مع بعض الناشطين في الداخل ومعارضين فارين في الخارج . تحركوا تعبيرا عن نعرات عرقية بدليل رفعهم طوال الأشهر الأولى ،شعارات ولافتات خطيرة تعدت التشبث بالهوية الأمازيغية التي يقرها الدستور، إلى المطالبة بالانفصال، وتقرير مصير المنطقة بل رفعوا علما يقال إنه يعود إلى عشرينيات القرن الماضي ، اتخذه المقاوم عبد الكريم الخطابي، رمزا للتنظيم السياسي والعسكري الذي أسسه، بهدف الجهاد ضد الاستعمار الإسباني الذي احتل شمال المغرب بينما انفردت فرنسا بجنوب البلاد.

كذلك أعاد المحتجون إلى الذاكرة الأحداث الأليمة التي شهدتها نفس المنطقة نهاية خمسينيات القرن الماضي، حيث أعلنت جماعات محلية العصيان والصعود إلى الجبال رافضة السلطة المركزية التي كانت في طور التشكيل، والبلاد تعيش تبعات صراع محتدم على الحكم بين الأحزاب المغربية، وفي مواجهة نفوذ القوى الاستعمارية التي تركت أتباعا وعملاء لها في المغرب المستقل. هذا ما جعل السلطة تلجأ إلى القوة لسحق تمرد أحاطت هو الآخر به الشبهات فقد حاولت استغلاله قوى أجنبية في ذلك الحين.

 لم يكن أمام السلطات المغربية، أمام هياج أعداد من المحتجين واعتصامهم في بعض ساحات مدينة الحسيمة وتكرار الحملات العدائية حيال السلطة ورموزها ، علما أن المدينة صغيرة لا يتعدى سكانها الأربعين ألفا ، وبالتالي فإن صداعها أكثر من حجمها، ولم تشكل في أي وقت، تهديدا للنظام والأمن في المغرب.

وكما جرى في احتجاجات سابقة في مناطق مغربية أخرى ، فإنه بات معروفا للخاص والعام، أن توجيهات الملك محمد السادس كانت صارمة وواضحة، بخصوص الامتناع عن مواجهة المحتجين بالعنف، إلا في الحالات القصوى للدفاع عن النفس .

ذلك ما يفسر ارتفاع عدد الإصابات بين قوات الأمن أثناء الاشتباكات، و ما يفسر كذلك اللجوء إلى الاعتقال الاحترازي لعدد من الناشطين ، اشتبهت السلطات الأمنية بعد مراقبتهم ، أنهم يؤججون متعمدين ، نار الفتنة خاصة وقد ضبطت ، حسب رواياتها،بحوزتهم دلائل موثقة تؤكد تورطهم وتلقي متزعميهم مساعدات مالية وتغطية إعلامية كثيفة وغير مسبوقة من الخارج.

في هذا السياق ، وحرصا منها على إنهاء الاحتقان ، اعترفت الدولة المغربية ، في أعلى مستوياتها، بالتقصير في إنفاذ المشاريع التنموية التي تمت برمجتها وتدشينها في وقت سابق ، بل إن العاهل المغربي ، أمر بتشكيل لجنة تحقيق بغاية التعرف على أوجه التقصير والمتسببين فيه من وزراء ومصالح إدارية ، ليخضعوا للمساءلة وربما العقاب.

تجدر الإشارة في ذات الصدد إلى أن الأزمة السياسية التي حالت دون تشكيل حكومة جديدة متولدة عن انتخابات أكتوبر الماضي والتي تزامنت مع اشتعال الاحتجاج ، ربما ساهمت بدورها في تأزيم الوضع في منطقة الريف . فالبلاد كانت تسيرها حكومة تصريف الأعمال، عاجزة عن اتخاذ قرارات حاسمة لإطفاء نار الاحتجاج والدخول في نقاش مع المحتجين الذين عمدوا إلى تأجيج ا نار الاحتجاج.

يلاحظ أن حوالي 5 في المائة من المستجوبين، وقفوا على الحياد، إنما لأنهم غير مطلعين على تفاصيل ما جرى أو أنهم لا يساندونه ، من جانب المحتجين أو الإدارة وأيضا على اعتبار أن الأزمة لا تصب في المصلحة الوطنية بل ربما تعرقل مسلسل الإصلاحات وتؤثر على استتباب الأمن وترسيخ تجربة ديمقراطية محاطة بالمخاطر .