«إيلاف» من بغداد: ليس هناك من مصور فوتوغرافي صحفي عراقي يلاحق وجع الاطفال الفقراء غيره، يصطاد اللحظات الهاربة من الزمن وان كانت تلك اللحظات في العراق، لا تعرف الهروب لكونها تتوالد وتتكاثر، لكنه يقتنصها لتوثق زمنا بكائيا عديم الضمير يكثف اوجاعه على قلوب النائمين تحت خط الفقر فيحطم آخر حاجز للصبر لديهم ويغني لهم آخر اغنيات الشجن الذي يضرب رأسه بحائط الصمت .

هذا المصور الفوتوغرافي هو كريم كلش (61 عاما) ، كاميرته لا تعرف سوى وجوه الفقراء والمحبطين والمسحوقين بتلك التقاطيع المرهقة والمتعبة والمعززة بالضيم والقهر واللاجدوى، الذين لا ينظرون الا الى وجه الله في صباحاتهم التي ينهضونها مبكرين ركضا للبحث عن لقمة عيش في متاهات الضياع اليومي المكتظ بالارهاق وفي مساءاتهم التي ينامونها مدججين بخطر الغد وما لا يتوقعون من خيبات تقتلهم جوعا، انه يلتقط لهم عشرات اللقطات التي تعبر عن مكنونات انفسهم المنكسرة وخلجات ذواتهم المحطمة، يقولون ما لا يرضي الحكومات ولا يسر اعضاء مجلس النواب ولا الاحزاب التي تتطاحن فيما بينها لينسحق المواطن اكثر فأكثر ما بين ان يمد يده متسولا او يفتش في النفايات عن بقايا طعام او مواد صالحة للبيع والاستعمال، فهو يشغل نفسه كثيرا بالبحث عن المهمشين ويذهب الى الاماكن التي يعيشون فيها او التي يلتقطون رزقهم منها، كاميرته لا تعرف غير تلك اللقطات المكثفة الحزن البائسة الرؤى وحتى ان ابتسم بعض الفقراء فيها فللفطرة التي يمتلكونها او لقناعتهم بما هم عليه وكأنها مثلهم تعيش تحت خط الفقر او للسخرية من انفسهم التي تحاول احزاب السلطة ان تذلها ، فهو يقول (ولدت في بيئة مسحوقة واتجاهي للتصوير هو جزء من تضامني مع ابناء هذه الطبقة وتحملهم العذاب طيلة عهود مضت من عمر العراق فسوء الاهتمام بالمواطن وعدم توفير حاجاته الاساسية وعمق المعاناة كلها امور جعلتني لا اغادر مشهدًا محزنًا الا وأوثقه بعدستي . وقد شدني هذا العالم ودفعني الى حمل الكاميرا لإلتقاط اروع الصور التني جعلتني اتخصص واهتم بتصوير الطفولة).

 

 احيانا اشعر ان كاميرا كريم كلش تسكب الدمع وهي تنظر تلك الوجوه الطفولية البائسة المعتقة بالهموم والاسى فتحاول ان تنفث بعض حسراتها وتأوهاتها وعزاؤها انها تلتقط الصور لتؤرخ هذه الحياة التي يعيشها هؤلاء العراقيون المنهكون بعذابات طويلة لا تنتهي، واحيانا اشعر ان هذا الرجل لا يجيد التقاط صور الفرح وكأنه ألزم نفسه وعدسته على ان يركض وراء الاحزان والبكاءات والعناءات ليلتقط لناسها صور المعاناة العفوية ، انه يلتقط الصور من دون تحضير ، قد ينزل من السيارة التي تقله ليقف امام لقطة فريدة لم ينتبه اليها الناس ، فيما الناس ينظرون اليه بدهشة ولسان حالهم يقول ماذا يريد هذا الرجل بهذه الصورة العادية، لكنه لا يراها عادية بل موجعة وتقطر اسى ، او انه حين يسمع عن مكان ما يتميز باستثنائيته في الالم فيذهب اليه ليقف هو وكاميرته ثابتين راكزين وهما فاغرين فاهيهما لالتقاط صورة يرثى لها لذلك هو يقول ان (إلتقاط لحظة هاربة في حياة المسحوقين أقصى أمنياتي) .

 

اللقطات.. التي يرسمها تحكي قصص الاطفال من البؤساء اينما كانوا وهم يتحملون اعباء الحياة لاسيما انه يركز على الطفولة اكثر من سواها ، يشعر بالاضطهاد وهو يصور الاطفال وهو في حالات بؤس لا مثيل لها لاسيما تلك تؤكد له انهم لم يعرفوا الطريق الى المدارس بقدر ما عرفوا الطريق الى مكبات النفايات 

لذلك وصفه الصحافي عبد اللطيف الموسوي بأنه (أيقونة الوجع العراقي المر ) وقال عنه : " كريم كلش إسم لايمكن ان يمر به المراقب من دون ان يتوقف عنده كثيراً، هذا إذا كان منصفًا، لسبب بسيط يتمثل في ان كلش حاول ان يخلق له بصمة خاصة به في مجال ابداعه وقد نجح في ذلك أيما نجاح". 

 واضاف: "نجح كريم لأنه كان مخلصًا للكاميرا التي حملها ولايزال يحملها ساعات طويلة على كتفيه وقبل ذلك كان حمل على كاهله هموم واوجاع المسحوقين والمغلوبين على أمرهم، ذلك لأنه يرى ان من واجبه ابراز معاناة المهمشين . العين الثالثة التي لايملكها الا القليل من البشر، كانت سباقة في الولوج الى عوالم وأزقة وحارات أهملها أولو الأمر، ولم يهملها ضمير ووجدان هذا الفنان والمصور الصحفي الخلوق".

 

 كما قال الناقد المختص في التصوير الفوتوغرافي فؤاد العبودي : كريم كلش .. فنان من طراز خاص...وتحديدا بفن الفوتغراف...شغوف بما تلتقطه عينه الفوتغرافية...اذ كثيرا ما يترجل من المركبة ليحقق حلم لقطة المصادفة وهو بهذا لا يهمه الوقت بمقدار ماتهمه اللحظة الهاربة واقتناصها فرحا غامرا،منذ فترة وهو يتجول راجلا في مكبات النفايات والطرقات،باحثا عن تلك الطفولة العراقية الرثة...التي تعد ندبا لايمحى من على وجه الوطن....مشروع كريم هذا نفذ منه جزء على شكل معرض...كتبت له ماتعنيه الطفولة في قاموس الله.

كريم كلش.. يستعد لاقامة معرضه الشخصي الخامس، لذلك كنا على قرب منه وهو في حيرة مما يختار من صور للعرض فكلها تمتلك الروح التراجيدية وقائمة على ساق واحدة من البؤس والحرمان ،كل صورة لها عينان دامعتان وقلب من جمر .