«إيلاف» من تونس: تراجع وتيرة الإحتجاجات التي شهدتها تونس بداية العام، بسبب الزيادة في الأسعار والأداءات، لا يعني أنها خمدت تماما، فالتوقعات تقول إن الإحتجاجات ستتأجج مرة أخرى وبحدّة أكبر ما يجعل من إخمادها يتطلّب أكثر من حملة إعتقالات واسعة كالتي جوبهت بها الإحتجاجات الأخيرة (اعتقال 835 شخصا خلال الفترة المتراوحة بين 8 و18 يناير) واعلان الحكومة عن إجراءات توصف بـ"المسكّنة" لا غير لتراكمات 7 سنوات تلت ثورة يناير 2011.

يتوقع الخبراء أن تظهر آثار قانون المالية لسنة 2018 على التونسيين ومقدرتهم الشرائية المتدهورة أصلا، بعد أشهر قليلة من تطبيق ما نصّ عليه قانون الموازنة من ترفيع في الأداءات الذي نتج عنه إرتفاع الأسعار وإقتطاع 1 بالمائة من أجور الموظفين، كمساهمة لإنقاذ الصناديق الإجتماعية، في مقابل إشتداد الأزمة السياسية أكثر، مما سيجعل الهوة بين السياسيين والمواطن تتعمق.

حكومات وحكومات...

9 حكومات تداولت على إدارة دواليب البلاد منذ سقوط نظام بن علي في يناير 2011، لم تخرج بطريقة فعالة لمعالجة الأزمات من خلال الخطابات وإجراءات لا تُنفّذ، كما يعتبر المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الإجتماعية والإقتصادية علاء الطالبي في تصريح لـ"إيلاف".

يضيف: "اليوم بعد مرور 7 سنوات على الثورة لن تجد وعود السياسيين والحكومة آذاناً صاغية"، وفق تعبيره.

ويضرب الطالبي، الذي يدير منظمة تؤطر أساسا الحركات الاحتجاجية وتكوّن ناشطيها على الوعي بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وطريقة المطالبة بها، المثل بالتراجع السريع عن إجراء العلاج المجاني للعاطلين عن العمل الذي أعلنته الحكومة إثر الاحتجاجات الأخيرة على قانون المالية لسنة 2018.

فقد أكد وزير الصحة التونسي بعد أيام من إعلانه ان العلاج المجاني لن يشمل ضرورة كلّ العاطلين عن العمل البالغة نسبتهم 15.3 بالمائة خلال الثلاثية الثالثة لسنة 2017 والمتوقّع إرتفاعها الى 15.9 بالمائة وفق إحصائيات غير رسمية أُعلن عنها السبت الماضي فيما كانت خلال مايو 2010 مثلا في حدود الـ13 بالمائة، وهو ما إعتبره علاء الطالبي "أحد مؤشرات عدم تجاوز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين المستوى النظري عبر دسترتها لا غير".

فنسبة التضخّم التي كانت في حدود 4.5 بالمائة خلال موفى 2010 ارتفعت اليوم الى 6.4 بالمائة، يقابلها انخفاض نسبة النمو من 3 بالمائة خلال 2010 الى 2,1 بالمائة خلال الثلاثي الثالث من سنة 2017 وهي أعلى نسبة نموّ عرفتها تونس منذ سنة 2011 ولكن لا تبدو كافية لخفض نسب البطالة ولا الحد من تفاقم عجز ميزانية الدولة الذي بلغ 5،2 مليارات دينار/2.4 مليار دولار في موفى 2017 بعد ان كان سنة 2016 قرابة 4،05 مليارات دينار/1.8 مليار دولار وفق "النتائج الأولية لتنفيذ ميزانية الدولة نوفمبر 2017" نشرتها مؤخرا وزارة المالية التونسية.

تردي الوضع الإقتصادي والإجتماعي ترجعه العديد من المنظمات في تونس الى الأزمة السياسية، فالمركزية النقابية القوية مثلا لا تفتأ توجه انتقادات على لسان أمينها العام نور الدين الطبوبي للسياسيين، فمؤخرا أرجع تردي الوضع الاقتصادي الى ما وصفه بالتكالب على الحكم بين الأحزاب والمراهقة السياسية التي تميّز الفاعلين السياسيين، والذي أسفر عن توتر الوضع وتقهقر منسوب ثقة التونسيين فيهم وفي قدرتهم على حلّ الإشكاليات الاقتصادية.

انعدام الثقة يخلّف عزوفًا

لعلّ أبرز مظاهر انعدام الثقة في الأحزاب السياسية بعد 7 سنوات من سقوط نظام بن علي، هو العزوف عن التصويت في الانتخابات، والتي كان أحدثها، تلك الانتخابات الجزئية التي تم اجراؤها في ألمانيا موفى العام 2017 وشهدت نسبة مشاركة لم تتجاوز الـ5.2 بالمائة في حين يتوقع كثيرون عزوفا عن المشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة تصل الى أكثر من 66 بالمائة، خاصة من الشباب وفق نتائج سبر آراء نُشر السبت الماضي.

رفيق الحلواني المنسق العام لشبكة "مراقبون"، وهي جمعية تُعنى بالانتخابات وأساسا مراقبتها، اعتبر في تصريح لـ"إيلاف" ان العزوف العام وخاصة لدى فئة الشباب عن الانتخاب يعود إلى فقدان الأمل في المستقبل وانعدام الثقة في السياسيين بتواصل تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كان الأمل في تحسينها طاغيا إثر ثورة يناير، مما انتج وفق الحلواني، اعتقادا ان انتخاب حزب او آخر لن يغيّر شيئا.

فنسبة التشاؤم لدى التونسيين بلغت أقصاها منذ سقوط نظام بن علي لتكون في حدود 78.1 بالمائة، وفق استطلاع للرأي نشر نهاية سنة 2017 مع اعتبار حوالي 73٫7 بالمائة من التونسيين ان بلادهم "تسير في الطريق الخطأ".

وحتى اليوم لا يبدو ان تونس تتجه لتجاوز التجاذبات السياسية، فـ"وثيقة قرطاج" التي تمثّل الأرضية التي على أساسها تم تشكيل الحكومة الحالية برئاسة يوسف الشاهد شهدت إنسحاب 4 أحزاب من جملة 9 أحزب و3 منظمات ممضية عليها، وهي "الحزب الجمهوري" و"حركة مشروع تونس" و"حركة الشعب" ذات التوجه القومي و"حزب آفاق تونس" الذي إنسحب كذلك من الحكومة، لكنّ وزراءه رفضوا الاستقالة.

الإنتقال الديمقراطي متعثّر

رغم ما يُقال من ان المسار السياسي والإنتقال الديمقراطي تقدّم في تونس على حساب الملفات الإقتصادية، إلا ان ذلك الإعتقاد يدحضه واقع عدم تركيز بعض المؤسسات الضرورية للانتقال الديمقراطي، وإجراء الإنتخابات البلدية وتفعيل اللامركزية التي نصّ عليها الدستور، بعد 3 سنوات من تبنيه، إذ تم التخلي عن 3 مواعيد سابقة أعلنتها هيئة الانتخابات التونسية لإجراء الانتخابات البلدية بسبب عدم إتفاق الأحزاب على موعد موحّد.

فقد كان يوم 30 أكتوبر 2016 اول تاريخ وقع تحديده من طرف هيئة الإنتخابات لإجراء الإنتخابات البلدية ومن ثمة تأجل الى مارس 2017 ولكن لم يقع الإلتزام بذلك التاريخ لتُرحّل الى 25 مارس 2018 وهو موعد لم ينل رضا كل الأحزاب السياسية، مما دفع للتخليّ عنه ليقع الإعلان على 6 مايو المقبل كتاريخ لتصويت التونسيين على أول مجالس بلدية منتخبة منذ سقوط نظام بن علي.

وكانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات شهدت استقالة مدوية في مايو لرئيسها شفيق صرصار الذي أدار انتخابات 2014، والذي أكد قبل إستقالته عديد المرات ان تأجيل الإنتخابات البلدية "متعمّد نظرًا لعدم إستعداد بعض الإحزاب السياسية لخوضها". 

شيماء بوهلال، مسؤولة البرامج في "بر الأمان" وهي جمعية تهدف للتأثير في السياسات العامة من خلال الإعلام، إعتبرت في تصريح لـ"إيلاف" ان تأجيل الإنتخابات البلدية لعديد المرات مسّ من إنتظارات المواطنين بإعتبار انها يمكن ان تكون أحد حلول الوضع الحالي المتردّي ولكن يجب ان تصاحبها، إنتخابات جهوية وتكريس المجلس الأعلى للجماعات المحلية لتكون البلاد قد تقدّمت فعلا في تفعيل مسار اللامركزية الذي نصّ عليه الدستور".

أهم ما نصّ عليه الدستور التونسي ولم يقع الإلتزام به وفق شيماء بوهلال، هو تركيز المحكمة الدستورية وهو أمر لم يتمّ الى اليوم رغم تنصيص الدستور الجديد على وجوب تركيزها في أجل أقصاه سنة من إجراء أول إنتخابات تشريعية بعد تبني الدستور، والتي تم إجراؤها في 26 أكتوبر 2014 والذي إعتبرته محدّثة "إيلاف" ضربا للدستور.

تأجيل تفعيل الدستور

تؤكّد الناشطة بوهلال ان عدم إرساء المحكمة الدستورية يجعل تفعيل الدستور على أرض الواقع مؤجّلاً الى حين تركيزها، بإعتبار انها المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تنظر في عدم دستورية القوانين المعمول بها منذ عقود، والتي تخالف بعضها الدستور الجديد للبلاد، كما انها تخلق توازنا بين السلطات لإختصاصها بالبت في عزل رئيس الجمهورية.

أعضاء المحكمة الدستورية الـ12 كما ينصّ الفصل 118 من الدستور، يعود تعيين كل 4 منهم بالتساوي، الى رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء والبرلمان الذي ينتخب 4 أعضاء من جملة المرشحين الذين تقدّمهم مختلف الكتل النيابية. 

ويتطلّب الظفر بعضوية في المحكمة الدستورية من بين الأعضاء الذين يفرزهم البرلمان حصول المرشّح على 145 صوتا على الأقل من جملة 217 نائبا في البرلمان التونسي، مما يستوجب توافقا بين الكتل النيابية على 4 مرشحين، وهو ما لم يحصل الى اليوم رغم إنطلاق النقاشات منذ فترة، وفق تأكيد الناطق الرسمي للبرلمان محمد بن صوف.

ولكن ذلك التوافق بين الكتل النيابية لإفراز مرشحي البرلمان الـ4 لعضوية المحكمة الدستورية، إنتقدته شيماء بوهلال وإعتبرته أمرًا "يجعل إنشاء محكمة دستورية يخضع للحسابات السياسية والإبتزاز بين الأحزاب السياسية في حين ان الاسلم التصويت للشخصيات الأجدر بعضوية المحكمة الدستورية بغضّ النظر عن الكتلة النيابية التي رشّحتها".