الرباط: تعود الحقل الحزبي في المغرب على إنتاج مفاهيم وشعارات سياسية تتسم في غالب الأحيان بتعميم يصل درجة الغموض؛ رغم أن الأحزاب تسعى بحكم مهامها إلى توصيف دقيق للأوضاع العامة في البلاد وخاصة الاجتماعية، للوقوف عند مظاهر الخلل واقتراح الوسائل والإجراءات لعلاجها وتجاوزها، إن هي وصلت إلى السلطة وأمكنها تطبيق برنامجها الانتخابي.

ولما كان نظام الاقتراع الحالي في المغرب، لا يمكن أن يفرز أغلبية عريضة منسجمة في البرلمان، مؤلفة من حزب أو حزبين على الأكثر، يتقاسمان المرجعيات الأساسية ؛ فإن سمة" اللاتجانس" ظلت مهيمنة على الحكومات التي تداولت السلطة في السنوات الأخيرة؛ ما كان له اثر سلبي على وتيرة التنمية، وتعثر الإصلاحات، وتطوير خدمات القطاعات الاجتماعية. وبعبارة أوضح تخبط في السياسات وتفاقم للمشاكل المتناسلة ، في مقابل صعود سقف المطالب المجتمعية وتوقها إلى حياة كريمة، قوامها العدالة والحكامة ومحاربة الفساد والريع، في إطار إنفاذ القانون.

هي وضعية باتت مقلقة، اضطر معها العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى دق ناقوس الخطر بوضع الطبقة السياسية ومختلف الفاعلين حيال مسؤوليات درء المخاطر المحدقة بالوطن ؛ داعيا أي الملك ، إلى تبني نموذج جديد للتنمية في المغرب ، اعترافا من أعلى سلطة في البلاد بأن النموذج التنموي الحالي، إن صح وجوده، فشل في تحقيق النتائج المتوخاة منه .

من يصوغ النموذج البديل؟ من يضمن نجاعته؟ وكيف تكون مواصفات الجهاز الحكومي القادر على تطبيقه؟

الحقيقة أن دعوة الملك محمد السادس، الواردة في خطابه الأخير بالبرلمان مفتتحا الدورة التشريعية الثانية للمؤسسة ؛ لم تثر، أي الدعوة، لدى الطبقة السياسية سوى ردود تقليدية مؤيدة في مجملها لرغبة الملك ، دون الذهاب إلى عمق المشكل، بتشخيصه موضوعيا وبأدوات جديدة واقتراح حلول عاجلة وآجلة من شأنها الشروع في خطوة عقلانية لنموذج تنموي مغاير.

السؤال الذي وجهته "إيلاف المغرب " لقرائها يدور حول مدى قدرة الطبقة السياسة ( الأحزاب) أو عدمها، على بلورة نموذج تنموي جديد ، وما إذا كان ضروريا إشراكها في المجهود المطلوب على مستوى الصياغة النظرية للنموذج ؟

أجوبة المستطلعين على سؤال "إيلاف المغرب " أتت لافتة للنظر حتى لا نقول صادمة ، كاشفة عن أن 70 في المائة من العينة المشاركة في الاستطلاع، أبدت شكوكا في قدرة السياسيين الحزبيين المغاربة على تصور نموذج تنموي جديد كفيل بإصلاح الأعطاب الحاصلة ، بل دعت العينة صراحة إلى استبعادهم . فهل يعني رفضهم إسناد المهمة للخبراء والفنيين ( التقنوقراط)؟

يمكن قراءة وتأويل نسبة الرافضين العالية من مختلف زوايا النظر، كما البحث عن أسبابها ومبرراتها، لكنها تعكس في جميع الأحوال وبوضوح تام، نفور شريحة من المجتمع المغربي من الممارسة السياسية الحالية بل يأسها منها؛ بالنظر إلى أن الفاعلين الحزبيين راكموا عجزا فكريا مزمنا بخصوص كيفية النهوض بالمجتمع وإنتاج المعرفة التدبيرية.

صحيح أن السياسيين في مقدورهم نفي تهمة التقاعس عن أنفسهم ،ما داموا لم يشاركوا فعليا في صياغة مشاريع ومخططات التنمية السابقة، مثلما لم تكن لهم في يوم من الأيام ، الكلمة الأولى والأخيرة وكذا السلطة الفعلية لإعداد البرامج وتخطيط السياسات وتنفيذها؛ وبالتالي فإنهم بعيدون عن تحمل تبعات ومسؤولية الفشل وتفاقم الأزمة .

والحقيقة أن السياسيين ربما هم محقون في الدفاع عن أنفسهم وتنظيماتهم، كما أن النظام له ما يكفي من الحجج والمبررات جعلته محتاطا وحذرا من السياسيين ومن تخويلهم سلطة الاستفراد برسم السياسات.&

وينبغي التأكيد، في هذا الصدد، على أن المقاربات البيروقراطية، لم تكن دائما بمستوى النجاعة المطلوبة وخاصة ما يتعلق بالإصغاء لتطلعات وانتظارات فئات الشعب الواسعة واستباق المشاكل القادمة.

هذا أمر يعزوه بعض المحللين إلى كسل فكري تمكن من النفوس على مدى العقود الماضية وخصوصا خلال سنوات تهميش الأحزاب الفاعلة أو المؤهلة عن تقاسم السلطة ، ما جعلها تدور في فلك برامجها القديمة غير مهتمة بتحيينها، إذ أنها من جهة لا تريد مساعدة الحكم كما أنها تعرف ما يعتمل في الطوابق العليا والسفلى للسلطة .

وخارج الإطار الحزبي، راجت بعد الخطاب الملكي، أدبيات واجتهادات في وسائل الإعلام، محاولة رسم محددات نموذج تنموي يطمح إليه المغاربة؛ غير أن أفكار النخب من الأكاديميين والمحللين، لا تلزم أحدا، سوى الاستئناس والاستعانة بها من لدن الأطراف المعنية بصياغة النموذج، سلطة وأحزابا.

الإطار المرجعي وأسبقيات ومجالات النموذج التنموي الذي يريده الملك لشعبه ولبلاده ، لم تكن كافية ومحفزة بالقدر المطلوب لتعميق النقاش في المجتمع؛ بل لوحظ حدوث تباعد بين بعض التصورات والمقترحات التي عرضها السياسيون وسواهم من المشاركين في الجدل الذي غطته نسبيا وسائل الإعلام في حينه ؛ بينما يستوجب الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد، حالة استنفار والتحرك بأدوات وسرعات مختلفة، بعيدة عن تنافس غير مجدٍ.

الجدير بالإشارة إلى أن العاهل المغربي في خطابه أمام ممثلي الأمة، لم يقطع الأمل في الطبقة السياسية لذلك منحها فرصة إضافية لإظهار كفاءتها بما يؤهلها لشراكة ناضجة مع الحكم لتدبير مشاكل المجتمع، انطلاقا من نموذج تنموي مختلف، شكلا ومضمونا، أهدافا ونتائج.

وفي نفس السياق المحفز، قرر العاهل المغربي رفع المخصصات المالية الممنوحة للأحزاب، بشرط توجيهها لدعم الكفاءات الحزبية الشابة لتسهم علميا وفكريا في تطوير المجتمع، عبر الإحاطة المنهجية بمعوقات التنمية في المغرب. ليست المهمة سهلة على طرف دون آخر ، ما يحتم تضافر الجهود ، والابتعاد عن المزايدات السياسية العقيمة التي لم تنتج تنمية ولا ترفع نموا، أي أن التوافق العريض بين الأطراف يجب أن ينصب على مشروع يستجيب لمتطلبات التنمية والنمو، في غضون العشرية المقبلة على الأقل، بصرف النظر عن الأحزاب التي يمكن أن تشكل في يوم من الأيام ، الجهاز التنفيذي.

وهنا لا بد من إيجاد وتشجيع وقيام شكل من الانسجام والتكامل بين الفنيين والسياسيين الذين لهم رؤية سياسية منفتحة والتخلي عن المقاربة الحزبية الضيقة.

وأخيرا، فإن نتائج استطلاع "إيلاف المغرب" الذي انقسم حوله المستجوبون&بين الرفض والقبول، لم يُسجل فيه موقف محايد ، وهذا مؤشر على بقاء أمل ولو ضعيفا في السياسيين والحزبيين على اعتبار أنهم مثل "البكتيريا" الضرورية للتوازن بين المكونات المتفاعلة في جسم الإنسان .

وبطبيعة الحال، فإن من يضطلع بمسؤولية الحكم وتوجيه المجتمع نحو الآفاق الواعدة، لا يمكنه أن ينتظر حتى تتوافق الأحزاب وتسوي خلافاتها ،ضمن ترتيبات ومنافع متبادلة . لذلك يجوز القول بنوع من المجازفة إن عقل الحكم ،يفكر منذ أمد في نموذج تنموي بديل كفيل بإخراج البلاد من شرنقة الضغوطات الاجتماعية ؛بدليل أنه يبدي الإشارات بين الفينة والأخرى لمن يفهم.

ما هي مواصفات وملامح النموذج المبتغى؟ كيف يستعين ويستوحي من النماذج التي نجحت في بلدان دون أخرى؟

هل سيتجاوب المجتمع بمختلف شرائحه وتعبيراته مع توجهات وأهداف النموذج التنموي المأمول، أم أن ميلاده سيكون عسيرا، محفوفا بمخاطر الوضع؟

دروس التاريخ وتجاربه تعلمنا أن طاقات العمل والقدرة على كسر التحديات لا تنفد من الشعوب، لكنها مثل المعادن النفيسة ، لا تنكشف بسهولة إلا لمن يعرف الطريق إليها ويقيس حجم التراب سواء الذي يكسوها او تستند إليه.

وفي المغرب ما يبعث على تفاؤل عقلاني، مهما كثرت كثافة الغيوم .