القاهرة: كان داوود مايوم يرتدي قميصاً أبيض اللون مزيناً برسومات باللون الأحمر القرمزي، والبرتقالي، وقام بفحص أروقة الكتب في مكتبة جامعته قبل أن يختار كتابه التالي الذي سيقرأه، وهو: تحليل السياسات العامة وتقييم البرامج.

وقد ولد داوود في ما يعرف الآن بجنوب السودان، وكان أصغر أشقائه السبعة، وكانت أمهم في أمس الحاجة إلى حمايتهم بعد اندلاع الحرب الأهلية الثانية في السودان، واغتيال والدهم. وفي بداية التسعينات، وصلت العائلة إلى مخيم جبرونا للنازحين داخلياً، بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم، حيث مكثوا هناك ما يقرب من ثماني سنوات.

ويقول داوود: "إن أصعب شيء في العيش بمخيم هو عدم وجود رؤية واضحة عن إلى أين تتجه الحياة." وأضاف قائلاً: "الاضطرار إلى الاعتماد على نفسك، وافتقادك لأب تذهب إليه، وتطلب منه الدعم كان شعوراً مؤلماً للغاية."

وفي الواقع، أنْ تولَد في عائلة حُرِمَت من التعليم، وترى أنه لا فائدة في تغذية العقل بينما تتضوّر المعدة جوعاً، هو ما جعل داوود يدافع عن نفسه، ويناشد بقضيته أمام والدته، وأشقائه لكي يسمحوا له بالذهاب إلى المدرسة بالمخيم، في الخامسة من عمره.

&وبعد رحلة صراع مع المرض، تم نقله إلى العاصمة، وتم التحاقه بالتعليم الرسمي، وبعد ذلك، تمكَّن داوود من التخرج من المدرسة الثانوية، والتحق بالجامعة. ومع ذلك، اختبر داوود تجربة التهجير القسري للمرة الثانية، عندما اضطر إلى الفرار من السودان، والبحث عن ملاذ آمن في مصر.

&واستطرد داوود حديثه قائلاً: "إن أصعب تجربة يمكن للإنسان أن يمر بها هي أن يتم تهجيره، وتفرقته عن أحبائه. لقد شعرت بالارتعاد في كلا المرتين، وكان الاختلاف الوحيد بين المرتين أنه في المره الأولى كنت بجانب أسرتي، وكانت أمي أكبر داعم لي. ولكن في القاهرة كان الأمر مختلفاً، وأكثر صعوبة، حيث كنت مسؤولاً عن نفسي، وكان علىَّ أن أجد سبيلاً لبناء مستقبلي".

&وكشخصٍ متجهد بحق، لم يكن هناك أي تل يصعب على داوود تسلقه. فقد بدأ بالاشتراك في الأنشطة التطوعية في مجتمه، حيث قام بتدريس الأطفال القادمين من السودان، ومن جنوب السودان. وفي عام 2010، التحق داوود بكلية الحقوق في جامعة القاهرة للتعلم عن بُعد، وهي واحدة من أقدم الجامعات في مصر.

&وفي عام 2012، أعلنت المفوضية السامية للأمم التحدة لشؤون اللاجئين عن دعوة لتقديم طلبات الالتحاق ببرنامج المنح الدراسية، لمبادرة ألبرت أينشتاين الأكاديمية الألمانية للاجئين، والتي تتيح إلتحاق الطلبة اللاجئين بالتعليم الجامعي في الدول اللاجئين بها.

ومنذ تأسيسها عام 1992، نمت مبادرة ألبرت أينشتاين الأكاديمية الألمانية لللاجئين بشكلٍ كبير، حيث أتاحت الدراسة لأكثر من 13,500 طالب لاجئ في جامعات، وكليات 50 دولة لجوء.

&وتعتبر قصة داوود واحدة من قصص اللاجئين الناحجة التي تسلط عليها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في مصر الأضواء.

وبالنسبة لداوود، كانت هذه هي الفرصة التي يبحث عنها لمتابعة الدراسة، والحصول على درجة البكالوريوس في الاقتصاد بدوام كامل، وسط نقص التمويل. وعلى الرغم من ذلك، فقد شعر بالإحباط عندما علم أن عدد المتقدمين 97، ولن يقبل منهم إلا 7 طلاب فقط.

&ويتذكر داوود "في أحد الأيام، تلقيت اتصالاً هاتفياً من شخص يدعوني إلى مقابلة، مما أعطاني دفعة من الثقة، وفكرت أن لدي بالفعل فرصة. وأضاف قائلًا: "ولكن الأمر كان صعباً حيث وجب علىَّ إقناع اللجنة بأني المرشح الأفضل، وكنا جميعاً لاجئين عانوا من ظروف مشابهه".

وبعد سلسلة من المقابلات، كان داوود واحداً من اللاجئين السبعة الذين حصلوا على المنحة الدراسية.

وشعر داوود عند تلقيه الخبر بأن أحلامه أصبحت أخيراً في متناول يده. ومع ذلك، لم يستطع الفرار من فكرة معينة، ألا وهي "كم عدد اللاجئين الذين يعانون من نفس الظروف، والذين يبحثون عن الفرصة ذاتها لبناء أحلامهم" على حد قوله.

وأضاف قائلا: "أقسمت على النجاح، وليس مجرد الدراسة، لأن هذه الفرصة كان من الممكن أن تكون فرصة للاجئ آخر، ولم أكن أريد أن يفكر زملائي بأنني قمت بإهدارها".

وقد أوفى داوود بوعده لنفسه، ولأصدقائه، وتخرج من كلية الاقتصاد بجامعة 6 أكتوبر في عام 2016، مع مرتبة الشرف، وأصبح حاصلاً على شهادة في الاقتصاد، وشهادة في القانون.

وقد مكنه أدائه الأكاديمي، ونشاطه التطوعي من الحصول على زمالة الماجستير من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث يدرس حالياً السياسات العامة.

&ومنذ اندلاع الصراع في عام 2013، فرَّ حوالي 2.4 مليون شخص من جنوب السودان كلاجئين، بينما أصبح 1.8 مليون شخص آخر نازحين داخل البلاد. ويوجد حالياً أكثر من 13,000 ألف لاجئ، وملتمس لجوء من جنوب السودان، مسجلين لدى المفوضية بمصر.

واختتم داوود حديثه قائلا: "إذا لم يكن هناك منحة برنامج مبادرة آلبرت آينشتاين الأكادمية الألمانية للاجئين، فما كنت حيث أنا اليوم، أتابع دراستي للحصول على درجة الماجستير بالجامعة الأمريكية في القاهرة".