الرباط: يعيد رحيل الإعلامي والدبلوماسي ،عبد الجليل فنجيرو ، المدير الأسبق لوكالة المغرب العربي للأنباء (رسمية)، إلى الواجهة بدايات وسياقات تأسيس أول وكالة أنباء في المغرب المستقل، باعتبار الحدث مظهرًا للسيادة في إنتاج الأخبار وترويجها وإبراز مواقف الأمة من الأحداث والقضايا، فضلاً عن توثيق الصلات مع المجموعة الدولية.

وقد يستغرب كثيرون حين يعلمون أن المغرب المتحرر من حماية فرنسا وإسبانيا، اختار التعددية، دون قصرها على الأحزاب والاقتصاد الحر، وإنما غامر بأن تشمل الإعلام وفي سن مبكرة ، ذلك ما تجلى في تشجيع ودعم مبادرة الراحل" المهدي بنونة "، تأسيس هيئة إعلامية غير حكومية ، تتولى تجميع ونشر الأخبار والمعلومات المفيدة عن بلد استعاد سيادته ويسعى إلى ترسيخها في كافة المجالات.

عبد الجليل فنجيرو

ويروى أن الملك الراحل محمد الخامس، نصح الصحافي المتحمس للمشروع ، المهدي بنونة ، بالتريث بالنظر إلى ندرة الأطر القادرة على تحمل عبء الرسالة الإعلامية ، بشرياً وتقنياً. لكن المهدي الذي أغوته السلطة الرابعة ، طمأن الملك الراحل ، ليدشنها في وقت لاحق واختار لها الشعار المعروف "الخبر مقدس والتعليق حر".

أتيح للمدير المؤسس ، سليل مدينة تطوان ، ما لم يتح إلا لقليلين من نخب المغرب : نشأ في بيت للفكر والوطنية منفتح على الخارج ، ملم بما يجري في أوروبا ، بحكم القرب الجغرافي ، وفي البلدان العربية التي كان الفتى " بنونة" يتابع تطورها من خلال سماع الأحاديث التي تجري في بيت العائلة وهو مقصد شخصيات وازنة من المشرق العربي ومن أوروبا .

ارتأى التنظيم الوطني في تطوان ، أن يكون المهدي، ضمن بعثة الطلاب الذين سيشدون الرحال إلى فلسطين لمتابعة الدراسة في مدرسة النجاح بمدينة نابلس بداية الثلاثينيات.

كانت عين الفتى على الصحافة ؛ وخلافا لرفاقه الذين انتقلوا معه إلى مصر، اختار بنونة كلية الإعلام في الجامعة الأميركية بالقاهرة ، حيث تلقى أصول مهنة أدرك أن الرأي العام متعطش إليها ، لاسيما وأنها فتحت له الأبواب في مصر، فوجد نفسه ذات يوم محررا في جريدة الأهرام العريقة.

لم يطل المقام كثيرا في تطوان، بعد العودة ؛ فالمعارف التي اكتسبها الشاب بنونة هي أكبر من المدينة ولا بد من الاستفادة منها في أمكنة أخرى . هكذا تقرر إرسال خريج الجامعة الأميركية إلى نيويورك ، سرًا، لمتابعة ملف القضية المغربية في المنتظم الأممي.

في اميركا التي يجيد لغتها، لم يجد الوافد "بنونة" صعوبة في التأقلم والاندماج في الفضاء الإعلامي . كان مسنودا بتوصيات وتزكيات من الدبلوماسيين والسياسيين والمفكرين العرب المترددين على نيويورك. في هذا الصدد يشهد العارفون أن "بنونة" أفاد إعلاميا وسياسيا، القضية المغربية إلى حد كبير.

ومكافأة له ، اختاره الملك محمد الخامس ، غداة الاستقلال، ضمن الفريق الإعلامي بالقصر الملكي. هناك اكتشف وهو قريب من موقع القرار، حاجة الوطن إلى أداة إعلامية مؤثرة أكثر من الصحف والإذاعة ، باعتبارها المزودة للوسيلتين بالمواد التي تنشر وتذاع.

بثت الوكالة الوليدة عام 1959 أول قصاصاتها من مكاتب صغيرة، بشارع صنعاء، وسط العاصمة المغربية . انطلقت كشركة مساهمة، زبونها الأول الدولة المغربية والاشتراكات المحدودة التي نمت مع تأكيد مصداقيتها وموضوعيتها، وبقائها على مسافة من الدولة، وفية للشعار الذي اختارته علامة مهنية لها. لم تكن تمجد سياسات الحكومات المتعاقبة ولا تطبل أو تزمر للحكام ، بل سلكت، بتوجيه من مديرها الخبير بصناعة الإعلام ، ومزاج الرأي العام ، نهجا متوازنا، مستقلا قدر الإمكان تبعًا لضغوطات ذلك الزمن السياسي الحرج.

وبالعودة إلى القصاصات والتقارير التي بثتها وكالة المغرب العربي للأنباء ، عن المغرب الصاخب بالأحداث والنزاعات السياسية الحادة والصراعات الحزبية المحتدمة في غضون ستينيات القرن الماضي ، يلفت نظره أن سفينة وكالة الأنباء المغربية الوحيدة ، شقت طريقها بصعوبة ، لدرجة العجز أحيانا عن إرضاء الحكومة والمعارضة والرأي العام المتعطش إلى الحقيقة في آن واحد .

لم يكتب تاريخ "لاماب" كما يختزل الاسم بالفرنسية، وهي التي غطت الأحداث عقودًا تاركة إنجازاتها الذاتية من دون توثيق. قليلون هم من يعرفون حقيقة وملابسات فترة التأسيس وعوائق الانطلاق والخلاف مع السلطة.

أكيد ان المهدي بنونة ، أجبر عام 1974 على تسليم الوكالة بعد صدور الأوامر العليا بتأميمها لقاء تعويض لم يتردد المدير في وصفه بالهزيل؛ بل أنه بدا الانسحاب المنظم عام 1973.

صحيح أن الدولة لم تنتقم من "بنونة" فهو لم يكن موضع شك أو ثقة مطلقة . سبب إبعاده يعود لكونها أدركت، بعد محاولتين انقلابيتين ، أهمية امتلاك وسيلة إعلامية تكون رهن إشارتها في أي وقت ، لتمرر عبرها ما تشاء من خطابات دون اعتبار لأحد سوى ما تراه مصالح عليا ولو لم تفصح عنها .

لقد دشن المغرب مرحلة سياسية جديدة ، اقتضت التحكم في وسائل الإعلام وأصبح استمرار "بنونة" على رأس الوكالة محرجًا له وللدولة .

ولأنه وطني غيور على بلاده ، سارع إلى توجيه نصيحة مهنية إلى المسؤولين بتسريع إجراءات استلام الوكالة حتى لا تفقد مصداقيتها عند المشتركين خلال تعثر الفترة الانتقالية.

لم يجد المالك الجديد ، أفضل من ، عبد الجليل فنجيرو ، الاسم المعروف في الوكالة . فهو صحافي من الأوائل الذين اشتغلوا مع بنونة، وشاركوه أعباء التأسيس. ترقى في سلم التحرير، ونقش اسمه بهدوء، في ذاكرة أصحاب القرار بل صار قريبًا منهم ومخاطبهم في السر والعلن.

إن المدير الثاني ، الذي رحل يوم 6 فبراير الجاري ، عن عمر ناهز الثمانين، قضى أكثر من نصفها في الوكالة ، محرراً ورئيساً للتحرير ثم مديرا عاما لها لمدة ربع قرن من 1974 إلى 1999كانت الأطول في تاريخها .

أي بصمة أضافها "فنجيرو" إلى الوكالة وأي نقلة نوعية حققها ؟ كيف ظل في الموقع الحساس طوال ربع قرن دون ارتكاب خطأ جسيم استوجب تغييره أو الغضب عليه ؟

العارفون بخبايا الدار يذكرون أن "فنجيرو" ظل سيدها الآمر الناهي ، لكنه مارس دور الموجه بلباقة ومهنية عالية. ربما تشرب بعض أصولها وأخلاقها من سلفه "بنونة"

لم يصطدم المدير ، وهو سليل أسرة رباطية موريسكية، مع السلطة والعاملين الذين رباهم على حب المهنة والطاعة والامتثال لتوجيهات أولي الأمر . أشعرهم أنهم يشتغلون في جهاز رسمي يدفع أجورهم من ميزانية الدولة، وبالتالي فإن سقف الحرية نسبي ومحدود في الوكالة، وعليهم أن لا يشعروا بالندم لأنهم ينتمون إليها.

في نفس السياق ، لم يتحرج "فنجيرو "من نعت وكالة الأنباء بالرسمية والحكومية، أو لأنه موظف سام ؛ فقد آمن بأن للدولة الحق في إعلام خاص بها ، تمرر عبره خطابها دون أن تصادر حق الآخرين في تأسيس منابر إعلامية بديلة .

لم يقتل الطابع الرسمي للوكالة ، روح الصحافي في الراحل "فنجيرو" وأكثر الذين عملوا معه علمهم أن يتصرفوا بحكمة في منسوب الحرية المتاح لهم ، مثلما اجتهد في إلباس المؤسسة بلباس العصر، ليضمن لها وضعية اعتبارية ضمن النسيج الإعلامي وخاصة العربي والأفريقي ، بل لربما كانت الأفضل في هذا المجال.

كان حظ "فنجيرو" أفضل من سلفه ، فقد أنهى حياته الوظيفية سفيرًا في بيروت ، بينما تطوع المهدي بنونة ، للعمل في منظمة الهلال الأحمر المغربية ، بناء على رغبة الأميرة" للا مليكة" عمة العاهل المغربي، اعتبارًا لعلاقاته الخارجية وقدراته على التواصل والإقناع .

كان الراحلان فارسين إعلاميين. كل واحد في زمانه وحسب تكوينه وقناعاته . ليرحمهما الله.