بيروت: بعد ثماني سنوات من حرب طاحنة في سوريا، لم تعد مسألة إزاحة الرئيس بشار الأسد عن الحكم مطروحة في الوقت الحاضر، لكن بلاده تحوّلت الى حلبة منافسة بين قوى خارجية ذات مصالح متناقضة، في ظل حصار اقتصادي منهك.&

وبينما يوشك تنظيم الدولة الإسلامية الذي برز في خضم نزاع مدمر بدأ بتظاهرات سلمية تطالب برحيل الأسد وتفرع الى حرب معقدة ودامية، على الانهيار، يدخل النزاع عامه التاسع مع حصيلة تخطت 360 ألف قتيل ودمار تقدر كلفته بـ400 مليار دولار، بينما لا يزال أكثر من ستة ملايين نازح داخل سوريا، غالبيتهم بلا مأوى، ونحو ستة ملايين لاجئ خارجها، لا تشجع الأمم المتحدة عودتهم راهناً.

وبعدما شكل الوضع الأمني هاجس السوريين لسنوات، باتت الهموم المعيشية والاقتصادية تثقل كاهلهم اليوم. ويضطرون للانتظار في طوابير للحصول على أسطوانة غاز، ويتذمرون من البطالة وتقنين الكهرباء، بينما ترزح الشريحة الأكبر منهم تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة.

يقول الباحث في مركز الأمن الأميركي الجديد نيكولاس هيراس لوكالة فرانس برس إن النزاع بات راهناً "أقل تعقيداً مع وجود عدد أقل من المجموعات المسلحة". لكن في الوقت نفسه، أصبح "أكثر تعقيداً جراء وجود لاعبين أجانب فاعلين يسيطرون على مساحات واسعة داخل سوريا ومن غير المحتمل أن يغادروا قريباً".

تسيطر القوات الحكومية على أكثر من ستين في المئة من البلاد، بعد نكسات متلاحقة مُنيت بها المعارضة السورية. وتمّ ذلك بفضل دعم حليفتيها: إيران التي أرسلت منذ اندلاع النزاع قوات ومستشارين ومقاتلين شيعة من لبنان والعراق، وروسيا التي غيّر تدخلها العسكري منذ أواخر 2015 ميزان القوى ميدانياً لمصلحة دمشق. وتحتفظ موسكو بقواعد عسكرية وتسير دوريات في محافظات عدة.

يقول الباحث والأستاذ في جامعة أوكلاهوما الأميركية جوشوا لانديس لفرانس برس "يتسم المشهد السوري بالانقسامات واليأس" مع وجود "أكثر من ثلاثين في المئة من البلاد محتلة من حكومات أجنبية قامت بتشكيل وتمويل ميليشيات محلية".

مصالح متناقضة
أبرز المناطق التي لا تزال خارجة عن سيطرة النظام، محافظة ادلب (شمال غرب) التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) وتوجد فيها فصائل أخرى صغيرة. وهناك مناطق الإدارة الذاتية الكردية المدعومة أميركياً في شمال وشمال شرق سوريا، والغنية بالنفط والمياه والحقول الزراعية.

ورغم تكرار الأسد عزمه استعادة هذه المناطق، لكن ذلك لا يبدو ممكناً في الوقت الحالي. إذ يحمي اتفاق روسي تركي إدلب منذ سبتمبر، من هجوم لوحت به دمشق. بينما يحظى الأكراد بدعم دولي، لا سيما من واشنطن، كونهم رأس حربة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.

وتحتفظ تركيا بنقاط مراقبة في إدلب، وتسيّر دوريات، كما تنشر قواتها في مدن حدودية عدة شمالاً كجرابلس وعفرين. ويهدئ الوجود الأميركي اندفاعة أنقرة ضد المقاتلين الأكراد الذين تعدهم "إرهابيين" وتخشى تواصلهم مع المتمردين الأكراد على أرضها. كما يحول دون إقدام دمشق على أي خطوات عملية ضدهم.

وبعدما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب في نهاية العام قراره سحب ألفي جندي من سوريا، ما أثار مخاوف الأكراد، عادت واشنطن وقررت ابقاء "قوة سلام" من مئتي جندي، ما يوحي، بحسب محللين، بأن انسحابها ليس بقريب. ولكل من اللاعبين الدوليين في سوريا مصالح متناقضة.&

يشرح هيراس "يريد إردوغان أن ينتزع الأكراد من الحاضنة الأميركية ويفرض الأمن التركي على شمال وشرق سوريا. وترغب روسيا في تثبيت الأسد.. لحراسة قواعدها الآخذة في التوسع في سوريا (..) وعرض نفوذها" في المنطقة. وتريد إيران "بقاء الأسد حتى يتمكن الحرس الثوري من مواصلة استخدام سوريا كعمق استراتيجي لحزب الله في أي حرب مقبلة مع اسرائيل".

يحتاج الأسد وفق هيراس "الماء والقمح" من شرق سوريا، لكن "السياسة الأميركية تقوم على حرمانه من هذه الموارد ودفع اقتصاده إلى الانهيار". وقال الأسد خلال استقباله مسؤولاً صينياً الأحد إن "الحرب على سوريا بدأت تأخذ شكلاً جديداً أساسه الحصار، والحرب الاقتصادية".

عقوبات "صارمة"
وفي مواجهة النفوذ الأجنبي وعقوبات أميركية وأوروبية صارمة منذ بدء الحرب، رداً على قمع الاحتجاجات السلمية بالقوة، تجد دمشق نفسها عاجزة عن النهوض بالاقتصاد بعد دمار البنى التحتية وقطاعات تدرّ أموالاً لا سيما النفط.

يقول لانديس "الاقتصاد هو التحدي الأبرز، بعدما أدى حسم الحرب الأهلية إلى تقوية أسوأ خصائص النظام من فساد وعنف وغياب سيادة القانون". ويضيف "فوق ذلك كله، تفرض الولايات المتحدة واحدة من أشد أنظمة العقوبات على سوريا، من شأنها أن تواصل تعميق بؤس الناس".

بعدما امتدت خدمته الإلزامية لنحو ثماني سنوات، يحاول شادي عبّاس (40 عاماً) أن يواصل حياته في ظل ظروف اقتصادية صعبة. ويقول لفرانس برس "أشعر أن عليّ العمل في ثلاث مهن حتى أعوّض ما فاتني (..) وإذا عوّضتُ بعض المال والعمل، من سيعوّض لي شبابي؟". ويضيف "لم يظن أحد أن الحرب ستطول".

ويسعى حلفاء دمشق الى إنهاض الاقتصاد السوري، خصوصا لتعويض أموال باهظة تكبدوها خلال الحرب. وتخطط كل من موسكو وطهران تحديداً لأن تكون لشركاتها حصة الأسد في إعادة الإعمار. ووقعت كل منهما أخيراً اتفاقات ثنائية مع دمشق وعقوداً طويلة المدى في مجالات عدة، أبرزها الطاقة والبناء والنفط والزراعة.

وحث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأوروبيين في الصيف الماضي على المشاركة مالياً في إعادة الاعمار. وتنخرط موسكو في محادثات مع جهات دولية ودول خليجية في محاولة لتأمين الموارد اللازمة لذلك.&

يبدو واضحاً أن الدول التي دعمت المعارضة واستقبلت قياداتها بعد اندلاع النزاع تتعاطى اليوم بواقعية أكبر مع بقاء الأسد بعدما طالبت برحيله عن السلطة. وأعادت كل من الإمارات والبحرين فتح سفارتيهما في دمشق. أما المعارضة السورية، فبات صوتها خافتاً وقياداتها مشتتة.&

ويقول هيراس "باتت المعارضة السورية، سواء في الميدان أم في صفوف المغتربين واللاجئين، خاضعة بالكامل للقوى الخارجية".
ويضيف "شعلة الثورة تراجعت، وهذا بحدّ ذاته انتصار للأسد". &