ليوناردو دافينشي
Getty Images

في زاوية بكنيسة سان هوبير، وداخل قصر أومبواز في فرنسا وضع رئيسا دولتين أوربيتين إكليلا من الزهور على أحد الأضرحة.

وكانت تلك الزهور مزينة بالزنبقة البنفسجيّة، رمز عاصمة عصر النهضة ومهدها، فلورنسا.

وكان الرئيسان هما الفرنسي فرانسوا ماكرون ونظيره الإيطالي سيرجو ماتّاريلا.

أما الراقد في الضريح فهو نابغة عصر النهضة الإيطاليّة ليوناردو دي سير بييرو دافنشي الذي تمر خمس مائة سنة على وفاته.

وكان دافنشي رساما وعالما ومهندسا وموسيقيا ومغنيا ومخترعا أتاحت إبداعاته إمكانيّة التوصّل إلى كثير من المنجزات العلمية كالطائرة ومظلّة الهبوط والدراجة الهوائية ونواعير المياه (السواقي) والسدود التي تٌتيح إمكانية تغيير مسارات الأنهار، ناهيك عن دراساته التشريحيّة لجسد الإنسان والحيوانات والنباتات.

إنّه الصبي الأعسر الذي حمل، وهو لا يزال ابن السادسة عشر، معلّمه الكبير آندريا ديل فيرّوكّيو، على هجر الرسم والاقتصار على النحت، ذلك «لأن هذا الصبي، ليوناردو، يرسم أفضلَ منّي!».

عاش ليوناردو 67 عاماً فحسب، إلاّ أنّ ما تركه من رسوم وتخطيطات وبحوث ومخترعات، تحتاج بالتأكيد إلى ضعف ما عاشه من سنين. ورغم شهرته الكبرى في الرسم، لم يرسم ليوناردو إلاّ عدداً ضئيلاً من اللوحات، من بينها لوحة البورتريه الأشهر في العالم، أي «الجوكونده» المعروفة باسم «الموناليزا».

لقد كان دافنشي بطيء الإنجاز رسماً، ولم يرسم إلا عدداً قليلاً من الأعمال مقابل المال، وأبقى عدداً منها من دون اكتمال، وذلك لأنّه كان يرى في اكتمال اللوحة، مسخاً لطبيعة العمل الفنّي.

وبمناسبة افتتاح الاحتفالات بالمئوية الخامسة هذه، أكّد ماكرون وماتّاريلا على متانة الأواصر التي تربط روما وباريس وشعبيهما. وقد وصفها الرئيس الإيطالي «بالأواصر التاريخية التي لن تنفصم أبداً».

ولم يكنْ للقاء الرئيسين في باريس إلاّ أن يجري في أجواء في غاية الود، إلاّ أنّ هناك كثيرا من الصدأ المتراكم منذُ عقود على مِشجب الأواصر ما بين البلدين، ولن يزول ذلك الصدأ أو يُمكن أن يُزال بسهولة، لأنّ مشجب الأواصر المشتركة يبدو وكأنّه صُنع من الحديد العادي وليس من الفولاذ الصلد.

ويمكن لهذه الذكرى الخمسمائة أن تخفف شيئا من التوتّر ما بين الدولتين، لكن يكفي أن تهبّ ريح خفيفة لإزاحة الرماد عن جمر الخلافات الذي لم يكفّ عن الاتّقاد، فليس الودّ الكبير والحقيقي الذي أبداه الرئيسان بهذه المناسبة هو العلامة الفارقة في أواصر البلدين، إذ شابتها مواجهات وصراعات وتوتّرات عدة، كان آخرها ما حدث في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، عندما قرّرت باريس سحب سفيرها من روما للتشاور، بعد الهجوم الكلامي المتكرّر ضد فرنسا من قبل نائب رئيس الحكومة الإيطالية زعيم حزب الرابطة اليميني، ماتّيو سالفيني، وعلى إثر اللقاء المفاجئ الذي عقده النائب الآخر لرئيس الحكومة الإيطاليّة وزعيم حركة «5 نجوم»، لويجي دي مايو، مع قادة حركة "السترات الصفراء" الذين يتظاهرون في شارع الشانزيليزيه بباريس وعدد آخر من شوارع مدنٍ أخرى احتجاجاً على سياسات الرئيس الفرنسي الاقتصادية.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الإيطالي سيرجو ماتاريلا
Getty Images

ورغم اعتبار الكثير من المعلّقين السياسيّين خطوة نائب رئس الحكومة الإيطاليّة «غلطة شاطر» دالّة على انعدام الخبرة الدبلوماسيّة، ورُغم اعتذاره هو شخصياً عن ذلك اللقاء، فقد اعتبرته باريس «تدخلاً» في الشأن الفرنسي من قبل مسؤول حكومي كبير، وهو ما نتج عنه سحب السفير الفرنسي لـ «التشاور».

ونتجت الخلافات والتوتّرات الأخيرة بين باريس وروما في الأساس عن سببين أساسيّين، أولّهما متعلّق بدبلوماسية ومواقف الدولتين من ملف الهجرة ومن الملف الليبي الذي صعَّدَ التوتّر بين روما وباريس في الأسابيع الأخيرة بشكلٍ مُقلق إذْ تباينت مواقف البلدين من الأحداث الأخيرة في ليبيا، إثرَ هجوم الجنرال خليفة حفتر على طرابلس وتهديده لحكومة فايز السرّاج، فعندما حظي حفتر بدعم باريس، فقد واصلت روما دعم حكومة السرّاج؛ وقد يعتقد بعضهم بأن تباين الدعم من قبل الدولتين لطرفي الصراع الليبي ناتجٌ عن تعاطفات أيديولجية أو علاقات صداقة، في حين أن ذلك الدعم نتيجة طبيعية للمصالح النفطية وموارد الغاز الليبي.

أمّا ثاني السببين فهو ذو صلةٍ بالسياسة الداخلية وبالتوازنات السياسية التي يطمح الحزبان الحاكمان في إيطاليا اليوم إلى تحقيقها عبر تدعيم معسكريهما وتقويتهما في البرلمان الأوروبي الجديد الذي سيولد من انتخابات السادس والعشرين من الشهر الجاري، ففي ما يعمل زعيم حزب «الرابطة» بزعامة نائب رئيس الحكومة الإيطالية، ماتّيو سالفيني، على تقوية أواصره مع الأحزاب اليمينيّة المتطرفة في فرنسا وبولندا والمجر والنمسا، عمل النائب الآخر لرئيس الحكومة وزعيم حزب «٥ نجوم»، دونما نجاح، على استغلال الدعم والوهج الإعلامي لحركة "السترات الصفراء"، وهي الخطوة التي آلت إلى الخلاف الدبلوماسي الأخير مع باريس.

لكن كل هذا ليس إلاّ ما يظهر من جبل الجليد الغائر في البحر، فأساس القضيّة وعمادها هو الخلاف والتدابير والمواجهة الفرنسية الإيطالية في التعامل مع الملف الليبي، وليس ذلك فقط خلال الأسابيع الأخيرة منذ اشتعال الخلاف ببن طرابلس وبنغازي، أي بين الجنرال خليفة حفتر وحكومة فايز السراج، لأنّ الخلافات في هذا الشأن تعود إلى الفترة التي اندلعت فيها الحرب الليبية التي أطاحت بنظام العقيد معمّر القذافي؛ فعندما كانت روما، وحكومة سيلفيو بيرلسكوني، والحكومات التالية لها، تسعى من أجل الحفاظ على نظام القذافي، فإن فرنسا عملت، بالتعاون مع قطر، على إسقاط ذلك النظام.

ماتيو سالفيني وبرلسكوني
Getty Images

ثقافة عصر النهضة توحّد أكثر من الاقتصاد

ليس الاحتفال بالذكرى المئوية الخامسة لدافنشي هو الأول من نوعه في هذا الإطار، بل هو الثالث بعد الاحتفال في عام 1992 بذكرى مرور خمسة قرون على وفاة حاكم فلورنسا وعميد عائلة الميديتشي، الشاعر لورينزو دَيْ ميديشي، المعروف ب «لورينزو البديع»، لما حمل إلى مدينته من رخاء وازدهار في الفنون والثقافات والاقتصاد، تلاه الاحتفال في عام 2014 بالذكرى المئوية الخامسة لوفاة ميكلآنحيلو بوتاروتّي، صاحب التماثيل العظيمة وجدارية سقف قبّة السيستين في حاضرة الفاتيكان، وهي الصالة نفسها التي يجتمع فيها مجمع الكرادلة لانتخاب البابا الجديد.

ويأتي الاحتفال بالذكرى المئوية الخامسة بالتأكيد كمبرّر إعلامي للحديث عن الشخصية ويُوسّع أطر المعرفة بها، لكن الاحتفال بذكرى دافينشي في هذه الأيام، يصطبغ بأهمية أخرى، وهي أهمية استثنائية، ليس على الصعيد الإيطالي فحسب، بل على الصعيد الأوروبي، وبالذات في هذه المرحلة التي تتعرض فيها الوحدة الأوروبية لمخاطر جدّية باحتمال تشرذم وتفتّت التجربة التي انطلقت عام 1955 في روما بتأسيس السوق الأوروبية المشتركة.

ولا يكمن هذا الخطر في احتمال تكرار تجربة البريكست في بلدان أخرى، بل بسبب احتمال دخول البرلمان الأوروبي المقبل بعد انتخابات السادس والعشرين من الشهر الجاري قوى بَنَتْ وتبني استراتيجياتها ودعايتها الانتخابية على معاداة الاتحاد الأوروبي وتعمل على تفتيته، بل وتفجيره من الداخل.

لوحة موناليزا في متحف اللوفر
Getty Images

وتحوّل الاحتفال بالمئوية الخامسة لوفاة ليوناردو إلى سبب ومبرّر للعودة إلى الحديث عن الاتحاد الأوروبي من منطلق الثقافة، كمُعطى وأساس موحّد، وبالتأكيد، تمتلك شخصية ليوناردو، المولود في بلدة فينتشي، بالقرب من فلورنسا، والمتوفّى في بلدة أومبواز في فرنسا كلّ مواصفات التوحيد.

فكما حمل اسم مسقط رأسه لقباً وكُنيةً، فقد ترك في فرنسا عظامه واللوحة الأشهر في العالم، "الموناليزا"، والتي كان دافينشي، يحملها معه أينما ذهب أو حلّ، لذا كان من الطبيعي أن تَؤول ملكيّة تلك اللوحة إلى فرنسا، طالما أنها كانت معه في لحظة وفاته في بلدة أومبواز في الثاني من مايو/أيار 1519، حيث كان قد نزل منذ ثلاثة أعوام ضيفاً على الملك فرانسيس، الذي خصّص له جناحاً من القصر وتكلّف بحياته وبمعيشته بشكل كريم بعد أن كان قد هجر إيطاليا بسبب خلافات مع إخوته، غير الأشقاء، حول ميراث والده. ويُقال إن الملك فرانسيس حزن كثيراً لوفاة المايسترو الذي كان يُطلق عليه لقب «والدي».

زلّة لسان تمنح ليوناردو المواطنة الفرنسيّة

وتُشير أنباء الساعات الأخيرة إلى احتمال "خلاف" جديد قد ينشب بين روما وباريس، وذلك بسبب «زلّة لسانٍ» من قبل مُذيع في إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسيّة، والذي وصف ليوناردو دافينشي بكونه "من نوابغ فرنسا".

وإذا كانت نقاط الاختلاف والتباين قد انزوت في الظلّ خلال ساعات لقاء الرئيسين، فإنّها عادت الى السطح من جديد خلال الساعات الماضية، لأنّ الكثير من الإيطاليين رفضوا اعتبار ما قاله المذيع مجرّد "زلّة لسانٍ من جاهلٍ بالتاريخ"، بل "نتاجاً لسياسة الهيمنة الفرنسية واستحواذها على حقوق الآخرين".

لكن، أيّاً تكن طبيعة العلاقات ما بين روما وباريس، وبصرف النظر عمّا يعتبره الإيطاليون والفرنسيون، فإنّ دافينشي يظلّ النابغة الذي أطلق العنان لثورات في الفنّ والثقافة والعلوم، وهي الثورات ذاتها التي جعلت منه مُعاصراً لكلّ الأزمان، وعنصر الوحدة الأهم من بين جميع مفردات الثقافة الأوروبية.

ولو كان السيّاسيّون الذين أسّسوا الاتحاد الأوروبي قد انطلقوا من الثقافة الأوروبية ومن رموزها، كأساسٍ للوحدة، لكان الاتحاد الأوروبي اليوم أشدّ رسوخاً وأكثر أماناً من مفاسد الاقتصاد والمال وهيمنة المصارف على حياة مواطني دول الاتّحاد.