في خضم تغيرات عالمية تعيد الاستبداد إلى الواجهة مع تقهقر الديمقراطية، تبقى اليد الأميركية على الزناد، رافعة البندقية أو الدولار في وجه كل من يعاندها.

إيلاف من واشنطن: تسود اليوم حال شديدة من الهستيريا في واشنطن بشأن ما يسمى "الاستبداد"، الذي يُزعم أنه قد اشتد عوده وهو يشن هجومًا منظمًا على النظم الديمقراطية. قبل قرن مضى، استنّ الإمبرياليون والمستعمرون والفاشيون والشيوعيون نظريات حول تفوق أنظمتهم على الديمقراطية، وسعوا إلى فرض أنظمة حكم استبدادية على الآخرين. وفي الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، أدت الأيديولوجيا دورًا كبيرًا على المستوى الجيوبوليتيكي.

&استبداد.. علمانية

اليوم، الاستبداد يقبض على دول كثيرة، لكن لا دعاية باسم الاستبداد. وإن الجاذبية العالمية لأنظمة الحكم الاستبدادية، إن وجدت، مستمدة من مدى الرخاء والاستقرار اللذين توفرهما لمواطنيها.

من جانب آخر، الديمقراطية في تراجع؛ وليس لأنها تتعرض لضغوط من أعداء أجانب، إنما لأن مواطني البلدان الديمقراطية فقدوا الثقة بها. فهم يرون في قادتهم المنتخبين أسخاصًا بلا كفاءة، وبلا قدرة على اتخاذ القارات الحاسمة، ولا تقديم الخدمات، بل يرونهم مرتشين، غير مبالين بمصالح المواطنين واحتياجاتهم. إن مقاومة التغيير العرقي والثقافي تتخذ أشكال قصوى، مثل "القومية البيضاء"، والغضب من "الاستقامة السياسية" التي تبدو امتيازًا للأقليات.

العلمانية أساس التسامح الديني في المجتمع الغربي. وبعدما رفضتها باكستان وإسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الثورة الإسلامية في إيران، تتعرض العلمانية الآن لهجوم علني في الهند، على الرغم من أن المسلمين هم أكبر الخاسرين جراء ذلك. يتغاضى التدين عن التسامح هنا في الولايات المتحدة، وربط الإسلام بالإرهاب رسخ الرهاب الإسلامي في دول كثيرة في الغرب. ويبدو أن القاسم المشترك بين اليهودية والمسيحية والإسلام والهندوسية هو رعايتها التحيزات العنيفة ضد من ينتمون إلى ديانات أخرى.

سلاح الدولرة

اليوم، تشكل حروب الرئيس الأميركي دونالد ترمب التجارية قطيعة تاريخية مع الماضي. فالنظام العالمي الوحيد الذي كانت تؤمنه في السابق الهيمنة الأميركية "الخيّرة" يتجزّأ في بنى وظيفية وإقليمية متعددة. السؤال المطروح اليوم: "هل يمكن، في غياب هذه الهيمنة، قيام نظام موحد من أي نوع، إقليميًا، أو دوليًا؟"

تسعى الولايات المتحدة حاليًا إلى استبدال هذا النظام وقواعده بنظام تجاري جديد يعتمد موازين تجارية ثنائية تديرها الحكومة، ويرتكز على حلّ المنازعات من خلال شن هجمات اقتصادية على معارضي الولايات المتحدة. وكانت سلاسل التوريد هي عوامل النمو الاقتصادي العالمي القائمة على الميزة النسبية.

فقد حوّلت واشنطن دولارها سلاحًا في ترسانة مشروع القوة الأميركية خارج الحدود الأميركية الإقليمية. فالولايات المتحدة تستخدم الآن بشكل روتيني قبضتها على الدولار للتعدى على سيادة حكومات أخرى، من خلال إجبارها على الامتثال لمشروعات تغيير النظام أو تغيير سياسات أخرى تعارضها هي.

لذلك، البحث جارٍ اليوم عن سبل ملائمة لإنهاء هيمنة الدولار على المعاملات الدولية في قائمة طويلة من البلدان. فالبعض يبحث في اعتماد اليوان الصينى ليحل محل الدولار. لكن، لا يمكن أي دولة - لا حتى دولة ذات اقتصاد قوي مثل الصين - أن تأمل في أن تتحدى الهيمنة العالمية للولايات المتحدة.

المفاوضة أم المواجهة؟

تستعيض القوى الكبرى والمتوسطة بالتفاوض لحل الخلافات عن المواجهة العسكرية. لكن المخاوف المتزايدة بشأن الأمن القومي تؤدي إلى تعطيل الأدوات التقنية شبه العالمية، ما يوسع دائرة الإقبال على الحرب. مرة أخرى، تقود الولايات المتحدة هذا الاتجاه. وهي تخلت إلى حد كبير عن الدبلوماسية لصالح اعتماد مواقف قصوى تتجاهل مصالح الأطراف الأخرى، وترفض الحوار، وتفتقر إلى الاستراتيجيات التفاوضية، وتهدد استخدام القوة، وتطالب باستسلام الآخرين غير المشروط. والنتيجة: تصعيد المواجهة بين أميركا وقائمة متنامية من الدول الأخرى.

في الشرق الأوسط، لم تعد إسرائيل والسعودية والإمارات ومصر تتبع التوجيه الأميركي، بل تتصرف بناء على أحكامها المستقلة ومصالحها الوطنية، وتعمل على تنويع علاقاتها الدولية. لا تزال الهند ملتزمة بتصميم عدم الانحياز حتى في سعيها إلى استغلال المصلحة الأميركية في تجنيدها حليفًا لها. في المقابل قررت الولايات المتحدة رسميًا أن الصين وروسيا عدوان.
&